إن صعوبة البحث في منظومة القيم الإسلامية لا تعود بالأساس إلى غموض في الموضوع، أو انغلاق في نواحيه؛ وإنما لاتساعه وترامي أطرافه، ورحابة مراميه، ولم لا؟ والبحث فيها بحثٌ في الإسلام كلّه، بما أنه دين القيم الذي أمر – أول ما أمر- ودعا – أول ما دعا- إلى قيمة إنسانية وروحيَّة عليا هي القراءة، وتلقي العلم الهادف لبناء الإنسانية حاضرا ومستقبلا.

فما بين هاتين الآيتين الكريمتين:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَق} [العلَق : 1] و {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينا} [المائدة : 3]، وعلى مدى ثلاثة وعشرين عاما هي مسيرة النبوة، قرابةَ رُبع قرن من الوحي الإلهي بين الأرض والسماء، تكوَّنَ رصيدٌ ضخمٌ من القيم الإسلامية التي أخرجت العالم أجمع من ظلمات الجهل إلى نور العلم، ومن الضعف إلى القوة، ومن الذل إلى العز.

كان “التوحيد” هو القيمة الأولى التي غرسها الإسلام في المجتمع، فنما وترعرع في كنفه حتى أصبح بمثابة الرابط العضوي الذي يجمع بين المؤمنين صلةً في الله، واتصالا بين الناس. ثم سرعان ما ثنَّى الإسلام بقيمة “المساواة”؛ وذلك عبر إعلانه على رؤوس الأشهاد أنَّه: “لا فضل لعربيٍّ على أعجميٍّ إلا بالتقوى والعمل الصالح”، فكان لها أعظم أثر في انتشاره بين مختلف الشعوب والأمم.

ثم توالت قيم الإسلام على هذا النحو، فكان لابدَّ من وجود نظام يجسِّدها في الواقع، وفي دنيا الناس، وكان لابدَّ من ربطها بأحكام الإسلام التَّشريعية: تعبُّدية كانت أم تنظيمية. وقد أجمل الله تعالى في نصف آية من كتابه الكريم فضائل الأخلاق التي تقود البشرية إلى الصِّراط المستقيم فقال سبحانه: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى}، كما أجمل المساوئ التي تفسد نظام المجتمع، أو تؤذن بخراب العمران بحسب تعبير ابن خلدون، في نصفها الثاني فقال: {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ}. وفي هذا البيان وفي تلك الموعظة زادٌ لكلِّ مُعتبر، وعِظَةٌ لكلِّ مُتَّعظ {يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون}.[النحل: 90]

من جهة أخرى، إذا كانت العقيدة الصحيحة هي التي تصل الإنسان اتصالا مكينا بخالقه، وتربط ما بين عالم الشُّهود وعالم الغيب؛ فإنَّ الأنماط المختلفة من العبادة في الإسلام تعدُّ دليلا على سريان آثار العقيدة في الجوارح والنفوس بحيث يرى المؤمن بنور الله، مُستقبلا يومه بالوقوف بين يديه، سائلا إيَّاه العون والمدد على مواجهة صعاب الحياة. وبهذا تُمثِّل “العبادة” جزءا أساسيًّا من نظام الإسلام، خاصة إذا ما وضعنا بعين الاعتبار أنها هي التي تجعل التصوُّر الإسلاميَّ للوجود حيًّا في النفوس ناقلةً إيَّاه من حيز الفكر المجرد إلى حيز التطبيق العملي، ومن منظومة الأوامر والنواهي إلى رحابة العقل والقلب والوجدان.

أضف إلى ذلك أيضا؛ أنها الوسيلة الناجعة التي تنقل الإنسان من حال العلم والاقتناع العقلي بوجود الله، إلى مقام الإحساس والشعور بجلاله وهيمنته وعلمه سبحانه وتعالى بما {تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر : 19] وبحتمية لقائه والوقوف بين يديه والعرض عليه: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيم}.[الشعراء: 88-89]

كما أنَّ العبادة في الإسلام لا تنفك تُذكِّرُ المسلمَ بموقعه الحقيقي من الوجود، وبخلافته في الأرض. وآية ذلك؛ أنَّ الله سبحانه وتعالى قرن في كتابه الكريم ما بين إخلاص العبادة والتمكين في الأرض، فقال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون} .[النور: 55] مع ملاحظة أنَّ الوصول إلى هذا المقام (معرفة موقع الإنسان من الوجود) يقتضي – فيما يقتضي- أن يقف المرء أولا على حقيقة الشعائر وغايتها التعبدية حتى يصبح قيامه بها بمثابة النبراس الذي ينير الطريق له ولمن حوله.

وفي الأحوال كلها؛ فإنَّ من غير الحكمة في حق الخالق عزَّ وجلَّ أن يكون قد فرض علينا عبادةً خاليةً من المعنى، فارغةً من الحكمة، وهو الذي زودنا بعقول لإدراك الغايات البعيدة وفهم الأهداف القريبة، فقال سبحانه في حقِّ كتابه: {ولقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون} [الأنبياء: 10]، وقال أيضا: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2]، و {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ ۖ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُون} [آل عمران: 118]، و {كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون} [النور:  61]، وقال عز من قائل: {كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون} [يونس: 24]، وقال أيضا: {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الرعد:3]… إلى غير ذلك من الآيات.

وبالعودة إلى إمكانية استكشاف موقع الإنسان في الوجود عن طريق تدبُّر غائية العبادات، يمكننا القول: إن العبادات في الإسلام تتوسَّط بين كلٍّ من العقيدة من جهة، والمعاملات من جهة أخرى. ومردُّ ذلك أنَّ العقيدة الصحيحة هي أساس العبادات، كما أنَّ الأخلاقيات والسلوكيات العملية لا يستقيمُ أمرُها إلا بعد تمام كلٍّ من العقيدة والعبادة معا. ومن هنا تُبرز وسطيةُ العبادة هذه أهميتهَا لجهة أنها الوسيلة الأكيدة لإحداث الوعي بالشريعة وصاحبها من ناحية، وربط الدين بالدنيا من ناحية أخرى. ففيما تربِطُ العقيدةُ الإنسانَ بخالقه متجاوزا بذلك روابطه الأخرى: الشخصية القريبة، والغيرية البعيدة؛ تربطُ العبادةُ صاحبهَا برباط آخر: بحياته وواقعه، بإنسانيته وغايته، بمبدأ وجوده ومنتهى بشريته.

ويتحصل من ذلك؛ أنَّ المؤمن الحقيقيَّ هو ذلك الذي يُدرك أنَّ بلوغ أرقى مراتب الوعي الإنسانيِّ مُرتبط – بالدرجة الأولى- بإدراك موقعه من الكون والحياة، وأنَّ جوهر العبادة في الإسلام يُجيب بسهولة بالغة عن الأسئلة الثلاثة التي حيرت الإنسانية ردحًا طويلا من الزمان، ألا وهي: من أين؟ وإلى أين؟ ولماذا؟ حيث عبَّرت الآية القرآنية الكريمة: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] عن الغاية الكبرى التي انتدب اللهُ سبحانه الإنسانَ لأجلها، بعد أن عجزت السماوات والأرض والجبال عن حملها وأشفقن منها {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}.[الأحزاب: 72]