قدم أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز للأمة الإسلامية معروفا بإصداره الأمر الرسمي لتدوين السنة ويشكر عليه، فإنه حين نادى بهذا المشروع الجليل لم يطلقه جزافا أو على عواهنه دون بصيرة ورؤية، ولكنه قصد هدفا خاصا وهو صيانة السنة النبوية من الضياع والعبث، لذلك أخذ منهاجا قويما، وتتجلى هذه الميزات من خلال المنهجية التي اعتمدها في التدوين، ومن ذلك:

1أن المكلفين بجمع السنن هم المتخصصون من أهل الفن من المحدثين واختار أحسنهم أن يقوم بالعمل خير القيام ويحقق الغرض المرجو، وهذا من فطانة أمير المؤمنين ودقة نظره في إسناد الأمر إلى ذويه وأهله حتى تأتى النتائج مفيدة عميمة.

2– الاقتصار على الحديث وحده مع بُعد الاستقصاء فيه، وإنه لم يدوّن إلا الأحاديث النبوية المحضة والمجردة عن آثار الصحابة، استنادا واستجابة لأمر الخليفة كما دل عليه أمره العام:” انظروا حديث رسول الله صلى اله عليه وسلم فاجمعوه واحفظوه ” ودل عليه أمره الخاص ” انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أو سنّة ماضية أو حديث عمرة بن عبد الرحمن، فاكتبه…

وكما جاء تصريح واضح في أمره لأبي بكر رحمه الله: “ولا تقبل إلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم”، وكل هذا يدل على أن الهم القائم والغاية المقصودة في هذه الفترة هي الانشغال بجمع السنن وضبطها في واسع النطاق، مخافة من الضياع بموت حملتها، فلا يكاد يكون في قلوب أهل العلم فراغ ولا في أوقاتهم سوى هم جمع السنة، ولذا لم يجمع الإمام الزهري آثار الصحابة إلا بعد تدوينه للسنن وكان ذلك بعد وفاة عمر رحمه الله.

3– الاقتصار على تدوين صحاح السنة فقط، فلا بد من توثيق الأحاديث قبل تدوينها ولا يحشر الغث والسمين بلا تمييز، وقد ألزم أمير المؤمنين عمر رحمه الله، من يدوّن السنة النبوية أن يميّز الصحيح من السقيم، وأن لا يقيد إلا ما صح فحسب، ولذا قال لابن حزم: “اكتب إليَّ بما ثبت عندك من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم”. ثم لم يكتف عمر بأمره بذلك بل باشر بغربلة الأخبار بنفسه، وكان يتعاهد الموكلين بجمع السنة ويشرف عليهم ويستوثق عملهم أشد الاستيثاق، نظرا لكونه من أهل البصيرة والخبرة بالحديث.

يقول أبو الزناد عبد الله بن ذكوان القرشي رحمه الله: رأيت عمر بن عبد العزيز جمع الفقهاء، فجمعوا له أشياء من السنن، فإذا جاء الشيء الذي ليس العمل عليه قال: هذه زيادة ليس العمل عليها.[1] وهذا يوضح مدى ضرورة توثيق السنة المدونة.

4– نسخ السنن المدوّنة وإرسالها إلى الأمصار لتكون متداولة في البلاد الإسلامية الواسعة ومرجعًا للناس ومساعدة لهم على العناية بالسنة النبوية، وتكون قاطعة دابر بوادر فتنة الكذبة على الحديث النبوي.

الفوائد الجليلة للتدوين الرسمي

إن في دعوة أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز إلى ضبط السنن وتشجيع العلماء على جمعها لعاقبة سعيدة وحميدة خالدة، ولو لم تكن لعمر بن عبد العزيز رحمه الله منقبة أخرى سوى أمره بهذا التدوين الرسمي لكفى به شرفا ومنزلة بين الأمة الإسلامية، إذ كان هذا العمل يقارن أو قريبا من جمع القرآن – وهذا وحي وذاك وحي – الذي تم إنجازه في عصر الخلافة الراشدة وعم نفعه كافة المسلمين في شرق الأرض وغربها.والسنة هي المصدر الثانى التشريعي الإسلامي، وفي تدوينها مهد خصب لسهولة عمل أئمة الفقهاء في استنباط الأحكام دون كبير العناء في البحث عن مظانها المتفرقة، وإنما أصبحت مادة جاهزة للفقه كالقرآن الكريم.

وفي تدوينها حماية كبيرة لقدسيتها وإبقائها في حصن حصين ودفع بلاء عظيم عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم من كيد المفسدين وعبث العابثين، ومن الانحراف عن الجادة المسلوكة، ولئن كان الحديث النبوي بدأ تقييده في وقت مبكر على صفة جهود فردية فإن جمعه وتدوينه من قبل الدولة أعظم حسما للضياع وقطعا لدابره.         

وقال الجُمَحي رحمه الله:”ولولا ابن شهاب لذهب كثير من السنن”[2] لأن الإمام الزهري هو القَيِّمُ الرسمي على أمر التدوين، وكان رحمه الله مجيدا للسنة وذات المعرفة الواسعة بصحيح الروايات من من سقيمها، وتعد أحاديثه عند أهل العلم بالحديث من أصح الأسانيد.قال الإمام أحمد بن حنبل: “الزهري أحسن الناس حديثا وأحسن الناس إسنادا”[3]

لقد أقام أمير المؤمنين هشام بن عبد الملك رحمه الله كاتبين يكتبان عن الزهري، فأقاما سنة يكتبان عنه.[4]

وبقيت تلك دواوين السنن في خزانة دار الخلافة فترة طويلة بعد وفاة الزهري، تنشرها الدولة ويتدارسها جهابذة العلماء فيما بينهم حتى كانت من أسس النواة الأولى لرقي حركة التصنيف الحديثي في المرحلة اللاحقة.

وهذا يدلك على أن للدولة الأموية الإسلامية الفضل الأكبر في الأمر بجمع السنن حتىجند العلماء أنفسهم وأقلامهم لتدوينها، فعمم نفعها أكثر من نفع التقييد الفردي، فأمن أهل الإسلام من ضياع السنة النبوية وشتاتها.

هذا، وقد أحصى الدكتور محمد مصطفى الأعظمي[5] الصحابة الذين كانوا يكتبون أو كانت لهم صحف فبلغ عددهم اثنين وخمسين صحابيا.

هذا جيل الصحابة فإذا جئنا إلى جيل التابعين – قبل وبعد التدوين الرسمي – نجد أن الكتابة انتشرت أكثر من جيل الصحابة، فقد أوصل الدكتور محمد مصطفى الأعظمي التابعين الذين كانت لهم صحائف ورسائل إلى أكثر من اثنين وخمسين ومائة تابعي.[6]

وهكذا انطلقت مسيرة السنة النبوية الطيبة من الصدور والكتابة والتقييد الفردي حتى تولت الدولة تدوينها الرسمي، ثم سجلت فيما بعد الآثار في جوارها وتطورت العناية بها من ميدان التدوين إلى بوابة التصنيف في آخر الدولة الأموية التى هي بداية القرن الثاني.


[1] قبول الأخبار ومعرفة الرجال 1/117

[2] المعرفة والتاريخ. 1/353

[3] سير أعلام النبلاء 5/ 335

[4] جامع بيان العلم وفضله. 1/156

[5] في كتابه “دراسات في الحديث النبوي”

[6] شبهات القرآنيين، لعثمان بن معلم محمود بن شيخ علي. ص:50