كلما تحل ذكرى رفع النير عن بلد مسلم يحُشر الناس للاحتفال بأعياد الاستقلال، ونستذكر ونستحضر الأيام الحالكات والليالي المظلمات للماكينة الاستعمارية الغربية التي فرمت لحوم الأحياء وأحرقت رفات الأموات وأهلكت الحرث والنسل وأشاعت الفساد وعمقت الإعاقة الحضارية للمجتمعات المسلمة، ويهجم على الأذهان ليل الاستعمار البغيض الطويل على الجزائر التي هي أول بلد احتل (1830)، وآخر بلد تحرر (1962) حيث تروي المذكرات والشهادات وتملي الذاكرة الجماعية للشعب المحروب المقهور أيام القمل والجرب والمسغبة في المداشر والمشاتي والبقع والغوط، في الصحراء والجبال، في السهل والوعر، والبر والبحر.
إن هذه الذكريات الأليمة مما لا يجب أن يُنسى، لا بد أن يُذكر الشر حتى يُشكر الخير، ولا بد أن يُستحضر الخوف، حتى يُحمد الامن، وقد قال الله تعالى لموسى :” وذكرهم بأيام الله” أيام الانتصار على العلو الفرعوني والكنز القاروني والفساد الهاماني.
ربما أنشأنا سلطا، ولكننا لمّا نفلح بعد في بناء الدولة بدليل أن المتداول العربي لا يزال يحكي ثنائية الدولة والشعب، الجيش القاهر والمواطن المقهور، الحاكم المقدس والمواطن المدنس.
إن الأمة القوية هي التي يشعر فيها الفرد أنه الدولة، أو هو ركن ركين فيها يتزعزع كيانها من دونه، أو في غياب دوره، أو تغيب أهميته. ومن أجل استرداد الثقة المفقودة في الراهن البئيس وبناء أمة ودولة مهيبة يعز فيها الجميع يجب كرّ الكلام لتجذير كرامة المواطن في دولته مهما كانت حاله ومكانته، ولو كان مدانا في سجن سجين.
أما الأمم الضعيفة فهي التي تعيش الانفصال والعدواة والتوجس والخوف بين الحاكم والمحكوم وقد قال ﷺ:” خيار أئمتكم الذين تجبونهم ويحبونكم وتدعون لهم ويدعون لكم، وشرار أئمتكم الذين يبغضونكم وتبغضونهم، وتدعون عليهم ويدعون عليكم [مسلم، كتاب الإمارة، 3454]
عرفنا الأمم المهيبة تحتفي بمواطنيها وتُعزهم في أرضها وتفك أسرهم خارج ديارها، وتتأثر لهم ولا تألوا جهدا في إعزازهم أين ما كانوا، أليست أمريكا تحرك أساطيلها من أجل أمريكي واحد أسيرا أو مفقودا أو محكوما عليه من غيرها.
ألم تقتل إسرائيل أقدم سجين لديها وهو سمير القنطار، وذلك بعدما أعطت العهود والمواثيق، فحينما خرج إلى تراب لبنان أرسلت عليه من سمائها حمما تجعله عبرة لكل من تمتد يده إلى الدم الاسرائيلي النبيل؟.
إن من مكرور القول ومعاد الكلام أن بناء الأمم وهندسة الدول تبدأ من إعزاز الفرد واستذكار التاريخ والأمجاد، وإلا فبأي جيل تحارب المتربصين بك من الأعداء؟، وبأي فرد تدحر الطامعين في ما تحت قدميك من الخيرات، أو ما فوق رأسك من البركات، أو ما بين يديك من ذوي القربى والضعفة والمساكين.
وحتى لا تميد بنا الأفكار والخواطر فإن المرجع والمثال المحتذى هو محمد ﷺ الذي سطّر في سلمه وحربه وفي حله وترحاله معاني العزة لكل مسلم أو ذمي أو لاجئ أو لائذ بحرم مدينته المنورة ودولته المكينة.
فقد كان كل فرد من الصحابة الصادقين، وحتى من المنافقين المرتابين، بل ومن اليهود المجاورين يتفيئون ظلال العدل ويستنشقون هواء الحرية ويحتمون بشمس الكرامة في دولة المسلمين الأولى.
فمن البدايات والأيام الأول أشعر المصطفى جميع الصحابة وساكني المدينة من اليهود وغيرهم أنهم أعضاء في الدولة، وأنهم الدولة التي يجب عليهم أن يكافحوا في سبيلها كيد الأعادي ويردوا غوائل الغادرين، ففي عقد المدينة جاء:” المسلمون من قريش ويثرب ومن لحق بهم وجاهد معهم أمة من دون الناس، وأن لليهود النصرة والأسوة غير مظلومين ولا متظاهر عليهم، وأن بينهم النصر على من دهم يثرب…
ولن نخوض في الشواهد ولا في الوقائع ولكن يكفى أن عزة المسلمين وغيرهم في دولة المدينة كانت واقعا يحياه الناس، فهم في كنف دولة لا يُضام فيها أحد، ولا يذهب فيها حق، ولا يطلّ دم. ولنا شواهد منها:
أ/قصة الراعي المغدور من النفر من أعراب عكل وعرينة الذين جاؤوا المدينة وأعلنوا الإسلام، ولكنهم شكوا جوها الرطب، فأذن لهم المصطفى عليه السلام بالخروج إلى الحمى، والاغتداء من ألبان وأبوال إبل الصدقة، ولكنهم قابلوا الكرم بالإساءة، فقتلوا الراعي ومثّلوا به، وسرقوا الإبل وهربوا، فندب النبي ﷺ الصحابة لتعقّبهم، فأدركهم واقتص منهم، ولم يذهب دم الراعي هدرا.
ب/ عديد المغازي والبعوث والسرايا ضد غطفان وغيرها كانت ردا للأعراب الناهبين حتى لا ينتهكوا حمى الدولة، وحتى لا يُعضلوا بالسلم الاجتماعي القائم فيها. والسيرة مليئة بهذا النداء عند صباح الغارات: يا خيل الله اركبي. وكم جرى المصطفى على جواده مسارعا حتى تنكشف فخداه، ويعود مطمئنا الجميع بقوله: لا تُراعوا، فالكل في عزيز في كنف دولة مهيبة.
ج/ غزوة بني قينقاع بسبب انتهاك عرض امرأة دخلت سوقهم، فاحتال أحدهم لكشف عورتها، فجرد النبي ﷺ الغزوة ضدهم وأجلاهم عن المدينة، وفي هذا درس بليغ في أن من واجبات الدولة الحماية الكاملة للرعايا في دمائهم وأموالهم وأعراضهم.
د/ مستضعفو مكة المسلمون المحبوسون أو المفتونون : فقد كانت الدولة في المدينة تتضامن معهم معنويا بإبقاء قضيتهم حية في النفوس بتشريع القنوت في الصلوات في حقهم.
ه/ المجاورون من اليهود الذين حُفظت حقوقهم، وأنسوا بعدل الإسلام فكانوا يتركون أحبار الرشا والسحت ويتحاكمون إلى قضاء النبي ﷺ والدلائل في ذلك كثيرة. ويكفي التذكير بقصة بني أبيرق المنافقين الذين رموا جرم السرقة على يهودي، وكاد النبي ﷺ يميل لاتهامه بالجرم، فنزل آيات من سورة النساء [ الآيات 105-113] حافظات لحق هذا اليهودي المظلوم.
إنها عزة المسلم وكرامة اليهودي في المدينة التي جعلت المجتمع يعيش معنى الدولة، فكان إقلاعه الحضاري رهيبا في ذلك الزمن. أما الَخوَر الذي يحياه العرب فلفقد هذه المعاني، أليس الأمريكي يبدع لأن وراءه دولة تحرك أساطيلها من أجله؟ أليس الإسرائيلي يرفع رأسه لأن وراءه كيانا يأخذ بثأره ولو بعد حين، وما قصة قتل سمير القنطار عنا ببعيد…