وصف الله إبراهيم عليه السلام بصفات عديدة فهو الحليم الأواه المنيب الحنيف القانت الإمام والأمة وأبو الأنبياء خليل الرحمن، ولد صلوات الله وسلامه عليه وعاش في بيئة تعبد الأصنام والكواكب، وفي وسط هذا الركام من الظلمات أراد الله تعالى بعباده الخير، فكان إبراهيم عليه السلام نورا يبدد الله تعالى به الظلمات، وكانت كلماته فرقانا فرق الله تعالى بها بين الحق والباطل، وقد آتاه الله تعالى رشده، والرشد هو الاهتداء إلى وجوه الصلاح في الدين والدنيا.
ولك أن تقول في مفهوم الرشد أنه يجمع معرفة الهدف وكيفية الوصول إليه، وامتلاك العزيمة التي تساعد على ذلك. والرشد منحة إلهية يتفضل بها الحق سبحانه على من شاء من خلقه، فإذا أراد العبد ان يحصله فعليه بالقرآن الكريم قالت الجن {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ} [الجن: 1، 2]
ومن رشد الخليل عليه السلام طريقته في التعامل مع والده، وكان والده يصنع الأصنام، وكان إبراهيم يدعو إلى عبادة الله الواحد الديان، ما أبعد المسافة بينهما! ولكن انظر إلى هذا الحوار الراقي الذي دار بينهما رغم شدة الاختلاف إلا أنك تجد الأدب والتلطف مع الوالد قال الله تعالى {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم: 41 – 45] انظر إلى هذا النداء المحبب للنفوس: يا أبت! ويكررها أربع مرات، وكيف يسوقه إلى الحق سوقا رفيقا وكيف يدله على الله تعالى فيقول له{يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا } والإنسان ضعيف بحاجة إلى من يسمع شكواه حين يسد الناس آذانهم ويغلقوا أبوابهم عليهم ويمتنعوا عن مساعدته وهو بحاجة إلى من يرى الضر النازل عليه وإن لم يشكوا إلى أحد.
والآلهة التي يعبدها والد إبراهيم لا تستطيع أن تمد يدها بالمساعدة لأنها لا تعلم شيئا عن من يعبدها ثم انظر بعد حسن العرض وشدة الرفض تجد الرد الجميل {قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: 47] وتجد صدق العبودية {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ } [التوبة: 114]
ظهر رشد الخليل عليه السلام في تعامله مع قومه، فهم يعبدون الأصنام ورثوا عبادتها كابرا عن كابر، ومهمة الخليل عليه السلام أن يردهم إلى التوحيد الذي فطرهم الله تعالى عليه، ولما ذهب قومه إلى أصنامهم فوجدوها محطمة ذهلوا من هول ما رأوا، واتهموا الخليل بهذه الجريمة البشعة في نظرهم ألهمه الله أن يلقي التهمة على الصنم الكبير، وانظر إلى الرشد كيف يغير القناعات التي تكونت عبر السنين بجملة واحدة {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 63]هذه الجملة أعادتهم إلى الفطرة {فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} [الأنبياء: 64]إن الأصنام بين أيديهم يعبدونها منذ أزمان لكن ربما كانت هذه إحدى المرات القليلة التي رجعوا فيها إلى أنفسهم ليرو خطأهم في عبادة الأصنام أعاد إليهم عقولهم فقالوا {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ } [الأنبياء: 65] إنهم يعلمون أنهم لا ينطقون ولا يسمعون ولا يبصرون ولا ينفعون ولا يضرون وكانت هذه الحقائق مطموسة في نفوسهم أظهرها الخليل عليه السلام لكن الظلمات المتراكمة تغلبت {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ} [الأنبياء: 65]
نرى حمية الخليل عليه السلام عندما حطم الأصنام تحطيما {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا } [الأنبياء: 58]لكن هذه الحمية لم تلغ الرشد فقد أبقى الخليل أكبر الأصنام دون تحطيم ليستخدمه كدليل على عجز هذه الأصنام وضلال عبادها {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ } [الأنبياء: 58]
المسلم محتاج إلى الرشد في تعامله مع أهله فعليه أن يعلم أن الله تعالى خلقه وزوجه من نفس واحدة وليست من نوع آخر فهي إنسانه أيضا كما خلقها سبحانه وتعالى ليسكن الزوج إليها لا ليتصارع معها وليأنس بها لا لتكون الحياة بينهما سجالا بين غالب ومغلوب، لقد خلقها الله تعالى بشرا من البشر فيها من العيوب وفيها من الخير ومن الذي لا يخلو من العيوب والنبي ﷺ يقول :«لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ» أَوْ قَالَ: «غَيْرَهُ»[صحيح مسلم] ومن الرشد أنها عندما يقوم عوجها لا يضع السيف مكان العصا ولا العصا مكان السيف>
الرشد في اختيار الأصدقاء والبحث عن الصديق الصدوق، واعلم أنه كالملح في الطعام أو أقل، فالناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة كأن عندك مائة جمل لاتكاد تحصل منها على واحدة تصلح لحمل الأثقال وقطع المسافات الطويلة وما الحياة إلا رحلة يحتاج الإنسان فيها إلى من يشاركه همومه.
الرشد في التعامل مع المال كسبا وإنفاقا فلا يشغله كسب المال عن حق نفسه وحق أهله والرشد مطلوب كذلك في إنفاقه { وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67]
بعض الناس يعمل بمبدأ اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب، وهذا إن كان من قبيل الثقة في الله تعالى فما أحسنه فقد قال النبي ﷺ :” أَنْفِقْ بِلَالُ وَلَا تَخَافَنَّ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إِقْلَالًا» [مسند أبي يعلى الموصلي] ولكن إن كان من قبيل الإتلاف وهذا هو الغالب، وكم رأينا من الناس كانوا يملكون المبالغ الضخمة إن كان من قبيل الثقة فيما عند الله تعالى فهو حسن وإن كان من قبيل الإتلاف إولكنهم لم يعملوا حسابا للزمان فكانوا يبعثرون المال يمينا ويسارا فباتوا فقراء يسألون الناس، لقد أخذوا من التل فاختل حتى انتهى ولم يبق منه شئ.
الرشد يقتضي منا طلب المشورة من أهل الحكمة والخبرة والاختصاص، وليس من كل من نلقى نبث له شكوانا ونعلمه بأسرارنا دون التحقق من أمانته وحكمته ومدى فهمه.
الرشد يقتضينا أن نتحقق من الخبر قبل أن نصدق المتحدث فكل خبر يحتمل الصدق والكذب وللناس أهواء و أغراض في نشرهم للأخبار ومنهم من لا يعتني بالصدق والكذب بل يعينه أن يكثر متابعوه فقط.
إذا كان الرشد يحمل كل هذا الخير فما الذي يحول بيننا وبينه:
- اتباع الهوى والميل مع النفس حيث مالت {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50]
- عدم طلب الهداية من الله إذا التبس عليه أمر لا يتوجه إلى ربه لكي يتضح له الحق من الباطل ،كَانَ[النبي ﷺ] إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلَاتَهُ: «اللهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» [صحيح مسلم]
- لم يتدرب في صغره على الرشد ولم يتحمل مسؤليات تناسب قدراته العقلية والمعرفية
- لم يتعلم من أحداث الحياة يكرر أخطاءه فلا يعتبر بما حدث له ولا بما حدث للآخرين
- لاينظر إلى العواقب عينه على اللحظة الحاضرة
- عدم طلب الثبات على الحق، ومن هنا يفهم الحديث: اللهم إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد.
- يسمع ثناء الناس عليه فينسى عيوبه أو يتجاهلها
- الحب يمنع من الرشد، فحبك الشئ يعمي ويصم، ومهما استمع للأخطار المترتبة على ما يحب من الناس أو ما اعتاد من العادات يغلق منافذ الحس والفكر، وعندما نفقد الرشد تتسرب النعم من بين أيدينا ونفقد البوصلة التي تدلنا على ما فيه خيرنا وصلاحنا في الدنيا والآخرة .