الصدق أصل أصيل خصال البر الذي نهايته الجنة، وتتمثل حقيقته في النية واللسان والعمل والحال بما يتفق مع الواقع، ونقيضه الكذب الذى خلاف الواقع، وهو ركن ركين الفجور المؤدي إلى النار، ولذا حرم الإسلام الكذب في جميع الأشكال، سواء في الدين أو في غيره، وفي القول والعمل، وعلى الكبير والصغير، سواء في الجد أو في الهزل، وهو محرم في كل حال، وقد قال عليه الصلاة والسلام: « لا خير في الكذب »[1] ودل على حرمان قربانه ألبتة.
وعن ابن مسعود رضي الله تعالي عنه قال: والذي لا إله غيره لا يصلح الكذب في هزل ولا جد. اقرأوا إن شئتم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة: 119] أي: اصدُقوا والزموا الصدق تكونوا مع أهله، وتنجوا من المهالك، ويجعل لكم فرجًا من أموركم ومخرجًا تفسير القرآن العظيم.[2]
وقال ابن جرير الطبري:” إن الكذب الذي أذن النبي ﷺ فيه: في الحرب، وفي الإصلاح بين الناس، وعند المرأة تستصلح به هو ما كان من تعريض ينحى به نحو الصدق، غير أنه مما يحتمل المعنى الذي فيه الخديعة للعدو… فأما صريح الكذب فذلك غير جائز لأحد في شيء،كما قال عبد الله ابن مسعود: لا يصلح الكذب في جد ولا هزل.”[3]
وقفة سريعة مع حديث :” من قال لصبي تعال هاك”
وعن عبد الله بن عامر رضي الله عنه قال: دعتني أمي يوما ” ورسول الله ﷺ قاعد في بيتنا “، فقالت: ها تعال أعطيك، فقال لها رسول الله ﷺ: ” وما أردت أن تعطيه “، قالت: أعطيه تمرا، فقال لها رسول الله ﷺ: أما إنك لو لم تعطيه شيئا كتبت عليك كذبة “[4]
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: ” من قال لصبي: تعال هاك ثم لم يعطه، فهي كذبة”[5]
دل هذا الحديث النبوي الشريف على جملة فوائد تربوية عظيمة في غاية الأهمية ومن ذلك:
أولا: خطورة الاستهانة بالكذب
إن اطلاق عنان اللسان دون تحرى الصدق ودون التدبر من العوائد الفاشية لدى كثير من الناس ومن أسباب جلب مساوئ الأخلاق، لا سيما الكذب الذى هو أصل سوء الخلق، وقد يؤدي عدم المبالات بالكذب أن يجرى مجرى الدم فيصبح السجية والعادة،كماقال ابن مسعود:” إن الرجل… ليكذب ويتحرى الكذب حتى ما يكون للصدق في قلبه موضع إبرة يستقر فيه”[6] وقد يدخل إطلاق عنان اللسان دون القيود تحت قول النبي عليه الصلاة والسلام: «وإن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي بها بالا يهوي بها في النار سبعين خريفا»[7]والكذب مورد الهلكة والعقاب.
وقال أبو حاتم:” إنَّ الله جلَّ وعلا فضَّل اللسان على سائر الجوارح، ورفع درجته، وأبان فضيلته، بأن أنطقه من بين سائر الجوارح بتوحيده، فلا يجب للعاقل أن يعود آلة خلقها الله للنطق بتوحيده بالكذب، بل يجب عليه المداومة برعايته بلزوم الصدق، وما يعود عليه نفعه في داريه؛ لأنَّ اللسان يقتضي ما عُوِّد؛ إن صدقًا فصدقًا، وإن كذبًا فكذبًا”[8]
مقام الاستخفاف بالكذب مقام زلت فيه الألسنة والأقدام دون الشعور، ولخطورة الخوض فيه قلبا أو قالبا قال عليه الصلاة والسلام:”«أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحا، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه »[9].
وفي الصحيحين عن أسماء أن امرأة قالت: يا رسول الله إن لي ضرة، فهل علي جناح إن تشبعت من زوجي غير الذي يعطيني؟ قال:” المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور”[10]لما كان يظهر من غير حقيقة واقع الحال وهذا عين الكذب.
وعن عمر رضي الله عنه قال:” لا تبلغ حقيقة الإيمان حتى تدع الكذب في المزاح”.[11]
وفي طيات قوله عليه الصلاة والسلام:” أما إنك لو لم تعطيه شيئا كتبت عليك كذبة” تحذير شديد من خطورة تحول الاستهانة بالكذب إلى ظاهرة عائلية أو ظاهرة اجتماعية عامة يتبع فيها الصغير الكبير متأسيا، وأن جد الكذب وهزله جد على السواء فيجب الكف عنه نهائيا.
ثانيا: أهمية تربية الأولاد على الأخلاق الفاضلة
على الأباء تذكر قوله عليه الصلاة والسلام:” كلكم راع وكلكم مسؤول عن راعيته”[12] وكل مولود يولد على فطرة التلقي وقلب نقي وطاقات كامنة والتى يتعين على الوالدين تطويرها نحو حسن السيرة وتهذيب السلوك من خلال التصرفات الهادفة، بل كل تصرفات الوالدين تعتبر رسالة هادفة لدى الطفل المتلقي، تصرفاتٌ تزرع وتخلق فيه مبادئا وسلوكا وأفكارا تسهم في تكوينه مستقبلا، ومن هنا حذر النبي عليه الصلاة والسلام من خطورة ممازحة وملاعبة الصبيان بما لا تتفق مع واقع خلق الصدق حتى لا يتعود الطفل على الكذب، “من قال لصبي: تعال هاك ثم لم يعطه، فهي كذبة ” فالواجب على الوالدين مجانبة الملاعبة والمفاكهة الكاذبة مهما كان، لأنهم نواة الأطفال ومدرستهم الأولى التى يتخرجون منها على الدرب، وصغار اليوم هم شباب وكبار المجتمع المقبل، وإذا تمت رعايتهم وتنشيئتهم على الأخلاق الفاضلة، والقيم الدينية النبيلة فإنه يساعد على تنمية محبة الخصال الحميدة في نفوسهم مما سيعود بالنفع عليهم وعلى أهلهم ومجتمعهم الذى ينهض بالأمة إلى مجدها المثالي الفريد، وكل أمة شاع تحلى أبناؤها بخلق الدين الجميل هي الأمة التى تسعد وتتقوى وتسود، وأما إذا تم ترويض الأولاد وتدريبهم على الكذب وسوء الخلق ولا ريب أنه سينعكس طبعا سلبا لاحقا على تنشيئتهم ويجعلهم للسقوط الأخلاقي المرذول ما يمكن أن يصل إلى الطامة العامة والعار والبلايا التى لا تحمد عقباها، لأن الكذب على الأطفال أشد ضررا من غيرهم وينبغى على كل والد أن يجعل تربية ولده تربية إيمانية صافية لا يشوبها قبيح الأخلاق فضلا عن الكذب، بل تربية تحبب إلى النفس خصال الأخلاق الحميدة وتزينها.
ثالثا: إيجاب الوفاء بالوعد
يقتضي قوله عليه الصلاة والسلام “من قال لصبي تعال هاك ثم لم يعطه فهي كذبة” أن الكذب ليس بمباح في الوعد لأن صفة المؤمن وشيمه يأبى ذلك، كما في قوله تعالى: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا}[البقرة: 177] وإن الوفاء بالوعد من مكارم الأخلاق الجليلة والخلف فيه من آية النفاق الموجبة للتعيير والذم ولذا مقت الله تعالى غير ملتزمي الوعد من المؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ – كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2: 3]
وهذا عام يدخل فيه جميع الوعود والموعود كبيرا وصغيرا، وسواء أكان ذلك قولا باللسان أو بغيره، إذ لو لم يكن الوفاء بالوعد متعينا على العموم لما عد النبي عليه الصلاة والسلام الخلف فيه مع الصبي كذبا يحاسب عليه الواعد، فدل على وجوب التزام الوفاء بالوعد ولو كان في حق الصغير ولو كان الواعد أبا أو أما وإلا تكتب على الواعد الكذبة عند إخلاف الوعد، والكذب بريد الفجور كما لا يخفى.
ولكن إذا حال بين حسن قصد الوفاء بالوعد أمر طارئ غير إرادي فإنه لا يعد الخلف في هذه الحال كذبا نظرا للمقصد الأصلي، ويدل عليه ما روي من قوله عليه الصلاة والسلام: “وإذا وعد الرجل أخاه ومِن نيّته أن يفي فلم يفِ ولم يجئْ للميعاد فلا إثم عليه”[13] ويفهم من هذا أن عدم الوفاء بالوعد مع القدرة إثم مكتوب، ولكن ينتفى الإثم بانتفاء القدرة مع حسن الضمير.
والنبي عليه الصلاة والسلام بهذا القول:” من قال لصبي تعال هاك ثم لم يعطه فهي كذبة” يحث المؤمن أن يربي نفسه ويحصرها في دائرة الصدق وأن لا يتعداها إلى غيرها، لأن الوفاء بالوعد من الصدق ومنزلة الصديقين منزلة عظيمة ومرتبة شريفة.
رابعا: أهمية الانتباه لأي أمر مريب كي يُصحح
قول عبد الله بن عامر رضي الله عنه: دعتني أمي يوما ” ورسول الله ﷺ قاعد في بيتنا…الخ “يستفاد من هذا المشهد كيف كان اختلاط النبي عليه الصلاة والسلام مع أصحابه ومدى انتباهه لما يجرى حوله في المجلس من الأمور قد يعتبرونه أمرا طبيعيا هينا وهو عظيم، ويبادر إلى النصيحة والإنكار والتوجيه وبيان المضرة التى قد تترتب على التصرف المريب والتنبيه على كبر حجم جرم عاقبة الفعل، لأجل أن يوقع أثرا فعالا في نفس الشخص ويرتدع عن ارتكاب الفعل مرة أخرى.
وفي هذا رسالة واضحة إلى كل مربي الأجيال من الآباء والمعلمين والمرشدين وغيرهم ممن أنيط به مسؤولية التربية والرعاية، أن يكونوا في اليقظة التامة ولانتباه لأحوال من في رعايتهم والاهتمام بتحصينهم من وقوع في أي أمر قد يؤدي إلى الانحراف الخلقي أو الإثم فيبادروا صده فبل الحدوث، بأسلوب معقولة المعنى حتى يتحقق الأثر الإيجابي في النفس، اقتداءا بالنبي الكريم المربي الأكبر عليه الصلاة والسلام.
وقصاري القول من هذا الحديث الشريف، أن على الوالد التزام الصدق في المقال والمقال الحالي، وأن لا يربي ولده على الكذب بشكل من أي أشكال، وكلما يعده بشئ فلينجزه حتى يدرك أهيمة الصدق في الأخلاق وأن كله خير نافع، وأن الكذب يضر ولا ينفع.
وقال أبو بكر الصديق: إياكم والكذب فإنه مجانب الإيمان.[14]
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: “لأن يضعني الصدق -وقَلَّما يضع- أحبَّ إليَّ من أن يرفعني الكذب- وقلَّما يفعل[15]
وإن كان لا بد من الكذب وفي المعاريض مندوحة، لأنه متى جرب الولد الكذب على والديه فإنه سيفقد ثقته فيهماويثير الشك والريب في كل ما يصدر منهما، لذا يجب الحذر من الكذب في جميع الأحوال، ومن جاهد الكذب جاريا على قدم الصدق فإنه يورث لسان الصدق في المدخل وفي المخرج ويبارك في الأهل والمال ويتقبل في الصديقين عند مليك مقتدر.
[1] رواه مالك (3626)
[2] تفسير ابن كثير 4/230
[3] تهذيب الآثار (257)
[4] رواه أبو داود (4991) وصححه الألباني
[5] رواه أحمد (9835) وصححه الألباني
[6] مصنف ابن أبي شيبة (25600)
[7] رواه الترمذي (2314)
[8] روضة العقلاء. ص: 51
[9] رواه أبو داود (4800)
[10] متفق عليه
[11] مصنف ابن أبي شيبة (25606)
[12] متفق عليه
[13] رواه أبو داود (4995) وضعفه الألباني
[14] مصنف ابن أبي شيبة (25602)
[15] أدب الدنيا والدين 255