وصفت سورة الواقعة أحوال الناس يوم القيامة بدقة متناهية، وقسمتهم في أرض المحشر إلى ثلاثة أصناف رئيسية، وذلك في قوله تعالى: ﴿وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ [الواقعة: 7-12]. في هذا المقال، نستعرض بالتفصيل من هم السابقون السابقون، ولماذا هم أفضل الأصناف الثلاثة؟
تصنيف الناس يوم القيامة في سورة الواقعة
بناءً على الآيات الكريمة، ينقسم الناس يوم الحساب إلى ثلاثة أقسام:
- أصحاب الميمنة، وهم أهل اليمين أصحاب الجنة، وقيل: يجعلون في الجهة اليمنى في الجنة أو في المحشر. واليمين جهة عناية وكرامة في العرف، واشتقت من اليمن، أي البركة.
- أصحاب المشأمة، وهي اسم جهة مشتقة من الشؤم، وهو ضد اليمن فهو الضر وعدم النفع، وسماهم القرآن مرة أخرى ﴿وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ﴾ [الواقعة: 41] جعل المشأمة هنا ضد الميمنة إشعارا بأن حالهم حال شؤم وسوء، وهم أهل اليسار أهل النار.
- السابقون، وهم الصنف الأفضل من الأصناف الثلاثة، ووصفهم بالسبق يقتضي أنهم سابقون أمثالهم من المحسنين الذين عبر عنهم بأصحاب الميمنة فهم سابقون إلى الخير، فالناس لا يتسابقون إلا لنوال نفيس مرغوب لكل الناس، وأما الشر والضر فهم يتكعكعون عنه.
من هم السابقون السابقون بالتحديد؟
حقيقة السبق: وصول أحد مكانا قبل وصول أحد آخر. ثم اختلفت عبارات المفسرين في تحديد هويتهم بدقة، ولكنها اجتمعت على المعنى العام، وهم:
- السابقون بين يدي الله عز وجل المقربون: وهم الرسل والأنبياء والصديقون والشهداء[1].
- والسابقون من كل أمة إلى الإيمان والطاعة والجهاد والتوبة وأعمال البر، وهم الأنبياء والرسل عليهم السلام والشهداء والصديقون والقضاة العدول، هم السابقون إلى رحمة الله، وهم المقربون إلى جزيل ثواب الله وعظيم كرامته، والمقيمون إلى الأبد في جنات النعيم. والإشارة بقوله: {أولئك} لعلو درجتهم، ورفعة مكانتهم[2].
لماذا سُموا بالسابقين؟
وللإجابة على سبب إطلاق هذا الوصف على هذا الصنف من الناس قال ابن عاشور:
“يجوز أن يكون السابقون مستعملا في المبادرة والإسراع إلى الخير في الدين كما في قوله تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ﴾ [التوبة: 100].
ويجوز أن يكون مستعملا في المغالبة في تحصيل الخير كقوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ﴾ [المؤمنون: 61].
لماذا ذُكر “السابقون” في آخر الأصناف؟
قد يتساءل القارئ: بما أنهم الأفضل، لماذا لم يبدأ الله بذكرهم قبل أصحاب اليمين؟ لعل الحكمة في ذلك – كما يذكر المفسرون – تعود لأسباب بلاغية وتربوية:
التدرج في الترغيب والترهيب
أن الله جلت قدرته، وتعالت حكمته ذكر في أول السورة من الأمور الهائلة ما ذكر من العقاب، تخويفا لعباده، فإما محسن؛ فيزداد رغبة في الثواب، وإما مسيء؛ فيرجع عن إساءته خوفا من العقاب، فلذلك قدم أصحاب اليمين؛ ليسمعوا، ويرغبوا، ثم ذكر أصحاب الشمال ليرهبوا، ثم ذكر السابقين، وهم الذين لا يحزنهم الفزع الأكبر؛ ليجتهد أصحاب اليمين في القرب من درجتهم[3].
التشويق
تأخير ذكرهم يثير شوق السامع لمعرفة أحوال هذه الفئة المختارة وما أُعد لهم من جزاء عظيم.
جزاء السابقين عند الله تعالى
ثم عقب ذكر السابقين بما لهم عند الله تعالى من الدرجات الرفيعة والمنقبة العظيمة يوم القيامة، فقال الله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ(12)﴾.
معنى المقربون
والمقربون مأخوذ من القربة بمعنى الحظوة، وهو أبلغ من القريب، لدلالة صيغته على الاصطفاء والاجتباء.. أى: أولئك هم المقربون من ربهم- عز وجل قربا لا يعرف أحد مقداره.
وقيل: المقرب من الله في جواره، وفي ظل عرشه، ودار كرامته. إشارة إلى المنزلة والكرامة كما يظهر من اللفظ[4].
جنات النعيم
وقوله تعالى (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) بيان لمظهر من مظاهر آثار هذا التقرب.
قال الآلوسى: وقوله (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) متعلق بقوله الْمُقَرَّبُونَ أو بمضمر هو حال من ضميره، أى كائنين في جنات النعيم.
وعلى الوجهين. فيه إشارة إلى أن قربهم محض لذة وراحة، لا كقرب خواص الملك القائمين بأشغاله عنده، بل كقرب جلسائه وندمائه الذين لا شغل لهم، ولا يرد عليهم أمر أو نهى، ولذا قيل جَنَّاتِ النَّعِيمِ دون جنات الخلود ونحوه..(فِي جَنّاتِ النَّعِيمِ).
