إذا كنتَ في جماعةِ قومٍ أبدًا فلا تَعُمَّنَّ جيلًا من الناس أو أمَّة من الأمم بشَتْم ولا ذَمٍّ، فإنَّك لا تدري: لعلك تتناول بعض أعراض جُلسائك مُخطِئًا، فلا تأمَن مُكافأتَهُم، أو مُتعمِّدًا فتُنسَب إلى السَّفَه، ولا تَذُمَّنَّ مع ذلك اسمًا من أسماء الرجال أو النساء بأن تقول: إنَّ هذا لقبيحٌ من الأسماء، فإنَّك لا تدري لعلَّ ذلك غير موافق لبعض جُلسائك، ولعله يكون بعض أسماء الأهلين الحُرُم، ولا تستصغرنَّ من هذا شيئًا، فكلُّ ذلك يجرحُ في القلب، وجُرْحُ اللسان أشَدُّ من جرح اليدِ.
ومن الأخلاق السيئة على كل حال مُغَالبةُ الرجل على كلامه والاعتراضُ فيه، والقطعُ للحديث. ومن الأخلاق التي أنت جدير بتركها -إذا حدَّث الرجلُ حديثًا تعرفه- ألا تسابقَه إليه وتفتحه عليه وتشاركه فيه، حتى كأنَّك تُظهر للناس أنك تُريد أنْ يعلموا أنَّك تعلمُ مِثْلَ الذي يعلم، وما عليك أنْ تهنئه بذلك وتفْرِدَهُ به. وهذا الباب من أبواب البخل، وأبوابُهُ الغامضة كثيرةٌ.
إذا كنتَ في قوم ليسوا بُلغاء ولا فُصحاء فدَعِ التطاول عليهم بالبلاغة والفصاحة. واعلم أنَّ بعضَ شدَّة الحذرِ عونٌ عليك فيما تحذرُ، وأنَّ بعض شدَّة الاتِّقاء مِمَّا يدعو إليك ما تَتقي. واعلم أنَّ الناس يخدعون أنفسهم بالتعريض والتوقيع بالرجال في التماس مثَالبهم ومَساويهم ونقيصتهم، وكلُّ ذلك أبينُ عند سامعيه من وَضَح الصُّبْحِ، فلا تكوننَّ من ذلك في غرور، ولا تجعلنَّ نفسك من أهله.
اعلم أنَّ مِن تنكُّب الأمور ما يُسمَّى حَذَرًا، ومنه ما يُسمَّى خَوَرًا، فإن استطعت أن يكون جبنك من الأمر قبل مواقعتك إياه فافعل؛ فإن هذا الحذرُ، ولا تنغمس فيه ثم تتهيَّبهُ؛ فإن هذا هو الخَوَرُ، فإنَّ الحكيم لا يخوض نهرًا حتى يعلم مقدار غوره.
قد رأينا من سوء المجالسة أنَّ الرجل تثقُلُ عليه النعمة يراها بصاحبه، فيكون ما يشتفي بصاحبه -في تصغير أمره وتكدير النعمة عليه- أن يذكر الزوال والفناء والدوَل، كأنه واعظ وقاصٌّ، فلا يخفى ذلك على من يُعنَى به ولا غيره، ولا يُنَزَّل قولُهُ بمنزلة الموعظة والإبلاغ، ولكن بمنزلة الضَّجَر من النعمة -إذا رآها لغيره- والاغتمامِ بها والاستراحةِ إلى غير رَوْح.
وإني مخبرك عن صاحبٍ لي، كان من أعظم الناس في عيني، وكان رأسُ ما أعظمَهُ في عيني صِغَرَ الدنيا في عينه؛ كان خارجًا من سلطان بطنه؛ فلا يتشهَّى ما لا يجد، ولا يُكثر إذا وَجَدَ، وكان خارجًا من سلطان فَرْجِهِ؛ فلا يدعو إليه ريبة، ولا يستخفُّ له رأيًا ولا بدنًا، وكان خارجًا من سلطان لسانه؛ فلا يقول ما لا يعلم ولا ينازع فيما يعلم، وكان خارجًا من سلطان الجهالة؛ فلا يُقدِمُ أبدًا إلا على ثقةٍ بمنفعةٍ.
كان أكثَرَ دهره صامتًا فإذا نطق بَذَّ الناطقين.كان يُرَى متضاعفًا مستضْعَفًا، فإذا جاء الجِدُّ فهو الليث عاديًا.كان لا يدخُل في دعوى، ولا يشترك في مِراء، ولا يُدْلي بحُجَّة حتى يَرى قاضيًا عَدْلًا وشُهودًا عُدُولًا.
وكان لا يلوم أحدًا على ما قد يكون العذر في مثله حتى يعلم ما اعتذاره، وكان لا يشكو وجعًا إلَّا إلى مَن يرجو عنده البُرْء، وكان لا يستشير صاحبًا إلا من يرجو عنده النصيحة، وكان لا يتبرَّم ولا يتسخَّط ولا يتشهَّى ولا يتشكَّى، وكان لا ينقمُ على الوليِّ، ولا يَغْفلُ عن العدُوِّ، ولا يخصُّ نفسَه دون إخوانه بشيء من اهتمامه وحيلته وقوته.
فعليك بهذه الأخلاق إنْ أطقتَ -ولن تطيق- ولكنَّ أخذَ القليل خير من ترك الجميع. واعلم أنَّ خيْر طبقاتِ أهل الدنيا طبقةٌ أصِفُها لك: مَنْ لَمْ ترتفِعْ عن الوضيعِ ولم تتَّضِع عن الرفيع.