تكثر مجالس الوعظ ومقاطع الترغيب والترهيب قد تتأثر بعض النفوس وتدمع بعض العيون وقد يصاحبها عزم على ترك الذنوب لكن هذا التأثير الكبير أو الصغير يزول سريعا أو ببطء هذه المسألة الدقيقة حاول الإمام ابن الجوزي أن يجد لها تفسيرا وأن يقدم لها علاجا من خلال كتابه صيد الخاطر.
بداية نحب أن نؤكد أن أقسى القلوب واشدها عتوا وأكثرها استغراقا في الغفلة يمكن أن يستيقظ وينتبه قال الله عن فرعون { حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 90]
قد تكون الموعظة كلمة عابرة أو مشهدا تراه بعينك أو تسجله عدسة الكاميرا أو قصة تقرؤها أو تروى لك أو موقف يتعرض له الإنسان في حياته يهزه هزا عنيفا استمعت إلى قصة حدثت قبل عشرات السنين أحدهم أشعل النار وذهب لسرقة بعض الطعام مع أن عنده طعام كثير عاد ليجد طفله متفحما في هذه النار التي أشعلها بيده كان هذا المشهد الفظيع كفيلا بإيقاظه ووعظه وتوقفه عن كل جرائمه.
ولابد من التأكيد على أن هناك من تنتهي يقظته بمجرد انتهاء الموقف الذي استمع فيه لكلمات الواعظ بل ربما لا يتأثر بشيء مما ذكرناه سابقا ولا أدل على ذلك من هؤلاء الذين يستهترون بقيادة السيارات ويرون كل يوم من يموت بسبب ذلك أو تحدث له عاهة مستديمة وقد يصابون أنفسهم ببعض الأضرار نتيجة لتهورهم في القيادة لكن ما إن يغادروا المستشفى حتى يعودوا مرة ثانية إلى ما كانوا عليه من الرعونة والاستهتار {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28} [الأنعام:27، 28]
ومع هذا الوقع الأليم الذي يدل على موت القلوب أو على الأقل مرضها لا ينبغي ان يكون ذلك دافعا إلى اليأس لا من الواعظ الذي يرى الناس تسمع وتتأثر وقتيا أو لا يتأثرون على الإطلاق ولا ممن يسمع الموعظة لا ينبغي ان نستسلم للشيطان عندما يقول للواعظ كم قد وعظت بلا فائدة ولا لمن يسمع الوعظ عندما يقول له الشيطان كم قد سمعت بلا فائدة لازلت ترتكب نفس المعاصي وتقع في نفس الأخطاء ، فالعبادات كلها ومنها مجالس الوعظ تجدد تطهير الانسان ” أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهَرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسًا، مَا تَقُولُ: ذَلِكَ يُبْقِي مِنْ دَرَنِهِ ” قَالُوا: لاَ يُبْقِي مِنْ دَرَنِهِ شَيْئًا، قَالَ: «فَذَلِكَ مِثْلُ الصَّلَوَاتِ الخَمْسِ، يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الخَطَايَا» [صحيح البخاري] فكلما استمع الإنسان لموعظة كلما أعطى نفسه فرصة للتطهر وأعطى قلبه فرصة للتزود بوقود الإيمان قد يكون التطهر غير كاف يحتاج إلى التكرار لا بأس فليعاود الكرة قد تكون الشحنة غير كافية لكي تحرك قلبه لا بأس ليعطي نفسه فرصة أكبر.
ابن الجوزي رحمه الله يحاول تقديم تفسير لهذه الحالة التي يعاني منها كثيرون كيف يبكون ويتأثرون ساعة سماعهم للموعظة ثم ينصرفون إلى دنياهم وكأنهم لم يسمعوا شيئا بعد ذلك وقد جاء تفسيره بعد تدبر في أحوال الناس وكان رحمه الله مخالطا للبشر على اختلاف أصنافهم قريبا منهم يشاركهم الشعور والتفكير ، وجد رحمه الله أن ذلك يعود لسببين يمكن تفسير أحدهما بأن من أمسك كوبا به مشروب ساخن تصيبه حرارته وقت إمساكه بالكوب ويخف تاثير الحرارة على اليد بعد قليل او كثير لكنه يزول شيئا فشيئا.
والثاني أن حالة سماع الموعظة يكون القلب حاضرا والذهن بعيدا عن مشاغل الدنيا لذلك تتأثر النفس بكلمات الواعظ.
إن حالة التجهز للصلاة واستحضار أن العبد سيقف بين يدي ربه تجعل الصلاة أكثر خشوعا و استحضار شهود الملائكة لمجالس الذكر ونزول رحمات الله تعالى على الذاكرين مما يجعل المسلم أكثر خشوعا .
و استحضار الرغبة في إصلاح النفس من خلال الاستماع للمواعظ مما يجعل التأثر أكبر والتقرب من الله تعالى أكثر
سعي المسلم لقدر من التحضير يفرغ فيها النفس من الشواغل ويكون شعاره كما يقال كلي آذان صاغية وفرق كبير بين من يحضر مجلس الوعظ بجسمه وفكره يذهب يمينا ويسارا وبين من يحضر بعقله وقلبه وروحه.
تروى قصة طريفة تدل على حال من يحضرون بأجسادهم وتسرح عقولهم وتمرح في كل مكان إلا في المسجد والصلاة اختلف المصلون كم عدد الركعات التي صلوها في صلاة العشاء قال بعضهم أربعة وقال أحدهم ثلاثة وأقسم بالأيمان المغلظة قيل له ولماذا انت متأكد إلى هذه الدرجة قال عندي أربع محلات والعادة أني انتهي من حسابات محل في كل ركعة وأنا الان أتممت حساب ثلاثة محلات فقط ولم ابدأ في الرابع نبتسم أو نسخر إذا سمعنا مثل هذه الحكايات لكن للأسف هذا حال كثيرين في الصلاة وفي خطبة الجمعة وفي مجالس الوعظ الجسد حاضر والذهن والقلب مشغول.
هذه الشواغل الدنيوية تجذب الإنسان بعيدا عن مواطن العبادة حتى لو كان في قلب المسجد فهل يستطيع المسلم أن يعيد نفسه إلى الصلاة والانصات لكلام الخطيب والواعظ بأذنه وعقله وقلبه.
في القرآن الكريم والسنة المطهرة نماذج لأناس استطاعوا أن يتغلبوا على الملهيات وكانت قلوبهم حاضرة مع أبدانهم وقت الطاعة : قال تعالى {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور: 37] إنهم يتاجرون ومع ما تفعله التجارة بالتاجر حيث تجعله ينسى نفسه ويذكر الربح والعملاء إلا أن هؤلاء العباد الصالحون لازالوا مع ربهم وإن كانوا في السوق ويحبون الربح.
ورجل قلبه معلق بالمساجد وفي رواية سلمان من حبه إياها وفي الموطأ إذا خرج منه حتى يعود إليه يطوف الدنيا ويخالط الناس لكن قلبه معلق بالمساجد نريد أن نقارن بين من يتحرك على الأرض وقلبه معلق بالمسجد وبين أولئك الذين هم في داخل المساجد بأجسادهم وعقولهم وقلوبهم في كل مكان.
كيف نحول المواعظ من مؤثرات وقتية إلى منبهات مركوزة في القلب ؟
المتكلم يبذر بذورا في القلب والروح فتترك بصمتها شيئا فشيئا حتى يأتي الوقت الذي تثمر فيه وتكون كما قال تعالى ومثل كلمة طيبة كشجرة طيبة وحتى ندرك ثمار هذه البذور التي تلقى وتنمو حين تتوافر البيئة الطبيعية أو يستحضرها القلب في حال الحاجة أحد كبار العلماء في صباه عرض له فكرة نغصت عليه حياته تتعلق بذات الله تعالى قال فدفعتها بقول الله تعالى { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]هذه الجملة القرآنية الكريمة حفظها وبقيت مستكنة في قلبه حتى أصلحت من شأنه لما جاء وقت الخطر وصححت مساره لما ظهر ما يدعوه للانحراف عن الصراط المستقيم .
هناك جمل قصيرة ترسخ في الأذهان والقلوب مثل من حفظ القرآن حفظه القرآن وفتح له آفاقا في الفكر والرزق ينبغي أن نملأ به قلوبنا وعقولنا لتكون البوصلة التي توجهنا ساعة الحاجة.
يستمع الناس إلى المواعظ لكنهم لا يتساوون في التأثر بها :
فمنهم أهل اليقظة الذين يرون الحق فيقبلون عليه بلا تردد ولا التفات ينطلقون بقوة نحو هدفهم ويقتدون بالأنبياء الكرام وجه الله تعالى نبيه يحي بقوله {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12] يعني بجد وحرص واجتهاد.
وقال لموسى عليه السلام {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ } [الأعراف: 145]
أما بنو إسرائيل فقد أمرهم الله تعالى في ثلاثة مواضع من كتابه الكريم بقوله{خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ } [الأعراف: 171]
لذلك أدرك أهل اليقظة أن النجاح في الدين أو الدنيا لايمكن الوصول إليه بالتراخي فالتراخي يضيع الفرص السانحة.
ولأهل اليقظة الذين ينسون حظوظهم من المباحات يقول لهم النبي ﷺ ساعة وساعة:” سَاعَة لقُوَّة الْيَقَظَة وَسَاعَة للمباح وَإِن أوجبت بعض الْغَفْلَة”.[ كشف المشكل من حديث الصحيحين ]
وفريق ثان يمكن أن نسميه فريق السنبلة تستقيم أحيانا وتميلها الريح أحيانا أخرى يتأثرون بالمواعظ ويعملون بموجبها حينا وحينا آخر يسمعون ويتأثرون ولا يعملون أو يسمعون ولا يتأثرون وإذا ذكروا لا يتذكرون ولهؤلاء نوجه الخطاب الإلهي وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا.
وفريق ثالث فريق الأحجار ما أشببهم بالحجارة الصلبة التي تمر عليها المياة دون أن تترك أثرا تبقى الصلابة والقسوة في القلوب فتصد عن ذكر الله والانتفاع بمن يذكر بالله.
إن إدراك الطبيعة الإنسانية وتفاوتها مما يعين على حسن التعامل معها وتصور أن كل إنسان سيسمع هذه الموعظة أو تلك ستتغير حياته مائة وثمانين درجة او أن لافائدة من إلقاء المواعظ فالناس قد فسدت أخلاقهم وطبائعهم ويحتاجون إلى معجزة لكي يعودوا إلى الصراط المستقيم كلا التصورين مجاف للواقع وللحقيقة فالله سبحانه يهدي لنوره من يشاء وكم من كلمة أو موقف أعاد الإنسان إلى الصراط المستقيم وكم من مواعظ ألقيت لم يتأثر بها الواعظ ابتداء ولم يقصد بها وجه الله ولم يراع الهدي النبوي في خطاب بني آدم سقطت قبل أن تصل لأسماع المتلقين.