هذه الأمة الإسلامية الممتدة من المحيط إلى المحيط، ومن سواحل البحر الأسود إلى شواطئ حضرموت، والتي تشكل ركناً ركيناً في تاريخ هذه البشرية وجغرافيتها وثقافتها وحضارتها، لقد كانت لها لحظة ولادة، فهي لم تتشكل بتحالفات سياسية ولا بتوافقات اقتصادية، ولا بتقارب في الأنساب أو تقارب في الطبائع، ولا بتطورات فكرية أو ثقافية متدرجة.

لقد كانت لحظة ولادة هذه الأمة بكلمة السماء «اقرأ»، التي صدمت العرب وأدهشتهم، ولم يكونوا أبداً ينتظرونها أو يتوقعونها.

العرب لم يعرفوا في كل تاريخهم شيئاً اسمه «أمة العرب»، ولا «دولة العرب»، لا على مستوى الواقع ولا على مستوى الطموح والثقافة، وهذا الشعر الجاهلي بين أيدينا، والذي وثّق حياة العرب وأفكارهم واهتماماتهم، ليس فيه قصيدة واحدة تدعو إلى وحدة العرب، وإنما الفخر دائماً بالقبيلة والعشيرة وأبناء العمومة.

لقد حاول الفكر القومي المعاصر أن يخترع مقولة «اليقظة العربية» التي نضج فيها العرب قبل الإسلام وتكاملوا، على حد تعبير ميشيل عفلق في كتابه ذكرى الرسول العربي، والتي يصل بها إلى اعتقاد «أن الإسلام حركة عربية، ومعناه تجدد العروبة وتكاملها»، و»أن الرسالة الإسلامية كانت مفصحة عن تلك اليقظة العربية، وأن الإسلام لا يمكن أن يتمثل إلا في الأمة العربية».

لقد خلط هؤلاء بين الاستعداد الفطري والخُلقي عند العرب لتحمّل أعباء الرسالة، وبين الوعي القومي المزعوم، وهذا الخلط جاء بقصد ضرب نقطة التحول أو الولادة الحقيقية لهذه الأمة، وتصوير النبوة على أنها استجابة لهذا الوعي أو الطموح! بل لقد بلغ مستوى الخلط أو التضليل إلى اعتبار هذا الوعي القومي بحد ذاته عقيدة وديناً، فيقول علي ناصر: «العروبة نفسها دين عندنا، لأنها وجدت قبل الإسلام وقبل المسيحية في هذه الحياة الدنيا، مع دعوتها إلى أسمى ما في الأديان السماوية من أخلاق»، ولقد بلغ هذا الشذوذ أوجه باعتبار العصر الجاهلي هو العصر الذهبي للأمة، والدعوة الصريحة إلى تمثل ذلك العصر والعودة إليه، يقول زكي الأرسوزي: «ونحن بالعودة إلى جاهليتنا نلتقي مع أصول الثقافة الحديثة، ونتحاشى بهذه العودة ما أورثنا من حزازات المذاهب والأديان».

وإذا كان التاريخ وكل الأدبيات المحفوظة عن العرب تكذّب وجود مثل هذه النزعة القومية الوحدوية، فإن مضمون الرسالة الإسلامية كذلك يرفض بشكل قاطع مثل هذا التوجه، فالتعبير القرآني المتكرر يربط هذه الرسالة بسلسلة النبيين السابقين: نوح، وإبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف، وداود، وسليمان، وموسى، وعيسى، وغيرهم -على نبينا وعليهم الصلاة والسلام- ولا ذكر ليقظة العرب ولا طموحهم ولا نزعتهم القومية أو الوحدوية، ومع أن القرآن الكريم نزل بلغة العرب فإن خطابه جاء عاماً للناس أجمعين: «وما أرسلناك إلا كافّة للناس بشيراً ونذيراً»، «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين»، وفي محطات الدعوة الأولى كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقرّب بلالاً الحبشي، ويبعد أبا لهب الهاشمي القرشي.

إننا لسنا ضد أن يتفق العرب على إطار سياسي يجمعهم، لكننا حينما نتكلم عن الرسول أو الرسالة فالأمر مختلف، وكذلك حينما نتكلم عن مفهوم الأمة في ضوء هذه الرسالة.