يعتبر الإمام حجّة الإسلام أبو حامد الغزالي قمّة سامقة في التًّفكير الإسلامي، فقد اعتبره “عبًّاس محمود العقّاد” أرسطو المسلمين، وعدًّه الباحث الفرنسي “هنري تيراس” أحد الأدمغة الكبرى لما ترك من أثر عميق في الفكر الإسلامي على كل الأصعدة الثقافية والاجتماعيًّة، ولما خلًّفه قلمه الفيًّاض في مختلف الفنون الكلاميًّة والأصوليًّة والفقهيًّة .
ودرّة آثاره هو كتابه إحياء علوم الدّين الذي ألفه في عزّ الأزمة التي كان يحياها العالم الإسلامي من انقسام وتشرذم وتشتت فقهي وتبعثر مذهبي، هذا فضلا عن أزمة العلم والعمل التي تعيشها الساحة الفقهية والاجتماعية، مما جعل العالم الإسلامي من شرقه إلى غربه نهبا للتيارات المنحرفة، ومن هجمات الصليبيين التي انتقصت أراضيه من أطرافها، ثم ولجت إلى مركزه لتحتّل بيت المقدس وبلاد الشام سنة (492هـ -1099م).
جاء كتاب إحياء علوم الدين ليعيد تشريح القصور والتردي في ميادين الأخلاق والعمل، وليرسم خطا جديدا في تعامل المسلم مع خالقه ودينه ومجتمعه، فكان إحياء حقيقيا للروح الإسلامية التي ترهلت بتراكمات الاستبداد والجدل الفقهي والخواء الروحي.
ترك الكتاب أصداءه المدوية في كل مكان، ففي المشرق كان عمدة في الدرس الأخلاقي لدى المدارس النظامية، ثم في كل مجالس العلم والذكر وكان بعضهم يتخذه وردا لا يفتر عن قراءته وتدريسه، وعكف عليه البعض بالشرح والاختصار والتخريج كما هو صنيع العراقي والزبيدي وغيرهما.
لكن الكتاب قُوبل أيضا بالرفض، بل وصدر الأمر من المرابطين في الأندلس وبلاد الغرب الإسلامي الخاضع لدولة المرابطين بمنع تداوله، والإعلان بالعقوبة الزاجرة لمن يحوزه، وحُكم عليه بالإحراق بقرار رسمي وبفتوى فقيه قرطبة ابن حمدون في سنة (503هـ) وعُقدت لذلك محاكمات، ونصبت محارق للكتاب، وهو أمر شديد الغرابة في التاريخ الإسلامي.
يعيد البعض هذا الموقف الغريب إلى الواقع الذي انتهت إليه دولة المرابطين، والتي دخلت طور الترف، ومن ثم التراجع بعد وفاة مؤسسها القوي “يوسف بن تاشفين” صاحب معركة الزلاقة المشهورة سنة (479هـ – 1086م) .
يختلف الباحثون في فهم الأسباب الحقيقية التي انتهت بكتاب إحياء علوم الدين إلى الإحراق والمصادرة والمنع من التداول والقراءة في بلاد المغرب الإسلامي (الأندلس، المغرب، الجزائر)، فهل المشكلة ذاتية تعود إلى شخص الغزالي؟ أم موضوعية تتعلق بالخطاب الغزالي في الإحياء؟، أم أنها تعود إلى واقع المغرب الإسلامي أيام حكم المرابطين؟ وإذا كان الأمر كذلك فما هي مبررات العقل الفقهي والعقدي الذي حارب إحياء الغزالي، ورماه وأشياعه بالانحراف والزندقة.
وهل صحيح أن العقل الفقهي المالكي كان عقلا أحاديا متخوفا من مدرسة التزكية وعلم الكلام ؟ أم أن الحملة المذهبية ضد الإحياء لها مبرراتها الدينية المقبولة .
ربما تثوي الأسباب الكامنة وراء هذه الكائنة الغريبة في إحراق كتاب عالم سني ومدافع شرس عن العقيدة السنية ويقف ضد المنتقصين من قدر النبوة وسلامة الملة إلى تخوف الفقهاء من كل جديد يهزّ التجانس العلمي والاجتماعي في بلاد أقامت المصدّات أمام تسرّب الأفكار المناوئة للصفاء العقدي، والتي أطبقت على منع الجدل الكلامي، وما يمكن أن يجره من خلافات ونزاعات، فضلا عن الحملة المتصاعدة بين تيار الفقهاء أهل الظاهر والمتصوفة أهل الباطن، فقطعا لمسارب هذا الفكر كانت الحملة على كتاب الإحياء الذي أحيا به الغزالي لغة الحدس والقلب والكشف والذوق في المتداول السني.
ولفهم أسباب معارضة كتاب الإحياء يجب البحث في الجديد الذي حمله كتاب إحياء علوم الدين، والأثر الذي خلفه في العقل المسلم، حيث انتصر الإحياء في الأخير على معارضيه، وشكّل برنامجا للعقل المسلم للقرون التالية.
صحيح أن الإحياء انتصر في الأخير على معارضيه ، وطوّح بابن رشد الفيلسوف ومدرسته المشائية، وشكّل ما يمكن أن نسميه النمط الجديد في قراءة الاسلام ، وهي قراءة تميّزت بوحدة مذهبية طوال تسعمائة سنة كاملة، مما يؤكد تأثير الغزالي ومدرسته المتتابعة ( ابن العربي ، القاضي عياض، السنوسي، الثعالبي، زروق الفاسي….إلخ) .
المراجع:
(1) الطاهر المعموري: الغزالي وعلماء المغرب، تونس، الدار التونسية للنشر، 1990، ص15.
(2) المراكشي: المعجب في تلخيص أخبار المغرب، ط1، صيدا، المكتبة العصرية، 2006، ص130.
(3) دنش عصمت عبد اللطيف: الأندلس في نهاية المرابطين ومستهل الموحدين، ط1، بيروت، دار الغرب الإسلامي،1988، ص 274.
(4) محمد الأمين بلغيث: دولة المرابطين بالأندلس من مدينة السياسية إلى مدينة العلم، الجزائر، دار الوعي، 2009، ص 148.