قبل أربع سنوات تقريباً، وبينما نحن في انتظار بدء محاضرة الأزمات الدولية، شدّتني ملامح الحزن على وجه زميلتي التي تشغل منصباً مرموقاً في ماليزيا، وتذكّرت حينها أنّها تغيّبت عن المحاضرة السابقة، فتوجهت إليها بالسؤال مطمئنّاً عن أحوالها وعن سبب غيابها على غير العادة، أجابت بحُرقة: كنت مع قطّتي في المشفى، تلتها بصوت غزالة عند ضياع ولدها وقالت: لقد رحلت إلى الأبد، فيما حروفها كادت أن تغرقها العبرات. للوهلة الأولى ظننت أنّي لم أسمع جيّداً أو أن لهجتها الماليزية حالت دون فهمي لما تقول، وقد اختلط علي الأمر، أتقصد طفلها أم قطّها؟ (my kid or my cat). يبدو أنّ دهشتي لم تخف على زميلي النيجيري، نظر إليّ بوجه “موناليزي” وقال لي: نعم قطّها قد تعرّض لوعكة صحية وفارق الحياة. ولا أنكر حينها أنّ ظنّي الأول بأن ابنها قد مات هو ما أنقذني، فبدا عليّ التأثر الذي لم يكن ليظهر بتاتاً لو أنّي فهمت ما قالت مباشرة.
ثلاث ساعات هي مدّة المحاضرة، أمضيتها وأنا أحاول التملّص من نظرات زميلي النيجيري. كان كلانا على يقين أن أي اتصال بصريّ مطوّل يعني أننا سننفجر ضحكاً، فقد جئنا من بلدين يتعامل فيهما الأطفال مع القطط كتعاملهم مع كرة القدم، بل ليس من المبالغة القول: أنّ بلدي تجري فيها عمليات تعذيب القطط كعمل مسرحيّ. ثلاث ساعات وخمس ودقائق حتى التقينا وجهاً لوجه في رواقٍ يبعد أمتاراً عن قاعتنا، وبدأ زميلي الحديث بنبرة أفريقية فيها من السخرية ما يوازي الألم! وملخص قوله: أننا لسنا من جنس واحد ولا من كوكب واحد، المذابح بحق الإنسان ترتكب في بلدي وهؤلاء يبكون على قطّة!
أمّا أنا فقد لملمت ما تبقّى من إنسانيتي بعدما شاركته السخرية من مشاعر زميلتنا، وهرعت بين حبّات مطرٍ استوائيّ ثقيل نحو “حَسَنة (شامَة) زرقاء” على وجه مرفأ السيارات القريب، وهو اللقب الذي حازته سيّارتي من الأصدقاء لصغر حجمها. وما أن أغلقت باب الصندوق الأزرق على نفسي وقبضت المقود حتى شعرت أنّي ألقيت القبض على وحشيتي، كيف لي أن أستهزئ بمشاعرها؟ أليست وحشية واحدة تلك التي تعتدي على الإنسان والحيوان؟ تحرّكت بسيارتي قابضاً على المقود ووحشيتي، وتحرّك الإنسان في بدني كمارد يتململ في قمقمه. تولّى عقلي الباطن إدارة المقود، فيما عقلي الواعي يكبّل الوحش بداخلي ويوقظ الإنسان.
أعاد عقلي الواعي إنتاج مشاهد عدّة من جديد، وكأنّه يقول لي: الآن انظر إليها بعين الإنسان! قال لي: ألا تذكر أول إعلان رأيته في مصعد البناية حيث تسكن؟ هل تذكر ابتسامتك المستهزئة حين اكتشفت أن الإعلان متعلقٌ بقطٍّ مفقود؟ من أيّ بقعة في الكون جيء بك إلى هنا؟ ألا تعتقد معي الآن أن استهزاءك وسخريتك ما هي إلا مؤشر على لا إنسانية سلوكك وسلوك من شابهك في بلدك؟ انظر إلى القطط من حولك؛ ألا تراها تألف كل من حولها؟ ألا تراها تأتيك بكلّ ما آتاها الرحمن من دفء؟ ألا تذكر حين دخلت بيتك ضالة فداعبتكم حتى الصدمة؟ قلتم حينها يبدو أنّها مدرّبة! لا يا أسير ظرفك، ليست بالمدرّبة ولا بالمختلّة فطريّاً، فسلوكها طبيعيّ يعكس سلوكاً إنسانياً متّزناً من حولها، فلا ذاك يركلها بقدمه، ولا تلك ترمي لها بقايا دجاج مسموم! أنظر إلى الماليزيين من حولك كيف يحتضوننها ويداعبونها؟
فلتنس أمر القطط، وانظر إلى الكلاب التي تسمّونها بالضالة من حيث جئت، انظر إليها الآن في حارتك الغريبة، ألا تراها تتجوّل بين المارة دون أن تُخيف أو تخاف؟ تذكّر الآن تلك الملاحم الليلية لذات الكلاب في بلدك، وخطط الناس للقضاء عليها ومشاريع البلدية للحدّ منها. ألستم أنتم من تحتاجون البرامج والمشاريع للتكيّف مع الحيوانات؟ أليس الكلب فلسطينيّاً مثلك؟ لماذا تودّ لعب دور الصهيوني فتقتلعه من أرض آبائه وأجداده؟ أنت والكلب لكما نفس الحق في تلك الأرض، وأنت والصهيوني سواسية في الإعتداء على سكّان فلسطين من الكائنات الحيّة.
هل تعبت من الأسئلة والمشاهد؟ سأُعيد عليك مشهداً آخراً. مشهدٌ يظهر أن بإمكانك الاحتفاظ بإنسانيك حتى في ظل وحشية الحيوان، تجاهل القطط والكلاب الأليفة. ألم تنتبه إلى التعامل الماليزي مع القردة في هذه الأرض؟ أنت تعلم وهم يعلمون أنّ القردة عدوانية أحياناً، لكنّهم لا يتعاملون معها إلا بتودّد! هل تذكر رحلتك الأولى إلى شلالات روانج؟ أظنّك ما زلت تحتفظ بصورة القرد الذي اختطف علبة الملح من على طاولتك وهرب إلى أعلى الشجرة التي بها تستظل فسكبها عليك! ماذا فعلت حينها أنت ومن معك من الفلسطينيين والعرب؟ لقد قمتم في نفس اللحظة بالبحث عن أقرب حجرٍ كي ترجموا القرد الذي رغم عدوانيته في السرقة بدا مداعباً في سكب الملح، وقد فعلتم! في الجهة المقابلة، كانت مجموعة من مواطني البلد تشتري الموز وتوزّعه على القردة! فلا ملحاً أعدتم ولا كرماً أظهرتم.
بقيتُ حبيس ذاك الصندوق الأزرق مع كل تلك الأسئلة والمشاهد، حتى ترجّلت قبل أيام من (حَسَنة بيضاء) لفظت أنفاسها الأخيرة أمام بيتي في فلسطين، وما أن صَعدت الدرجات الثلاثين وصولاً إلى سطح بيتي حتى تقافزت من حولي ثلاث قطط كحُمُرٍ مستنفرة فرّت من قَسوَرَة، في مشهد يعكس وحشية الإنسان هنا، ذكرني المشهد بتقافزنا من على جنبات الطريق مع مرور أي مركبة عسكرية إسرائيلية خلال الانتفاضة الثانية. عدت أدراجي لأجالس أخي متحرّراً من الصندوق لا من الأسئلة والمشاهد. طلب منّي أن أشاركه مشاهدة فيديو يصوّر قيام أحدهم باصطياد ضبعٍ في منطقةٍ مجاورةٍ ومن ثم تكبيله وتعذيبه والاحتفاظ به، وفي سياق الحديث عن الحياة البرّية في قريتنا بعد هذا الفيديو، قال لي أخي: هل تذكر تلك الغزلان التي كانت تزيّن الحقول بجوارنا؟ لم تعد موجودة، لقد هربت واتخذت من مستوطنات العدوّ مرتعاً لها.
صفعني من حيث لا يدري، فحرّرني من التساؤلات، وأنا مدينٌ له بالشكر على ما فعل! نحن محتلّون لأرض الغزلان والقطط والكلاب والضباع والطيور، فلسطين لهم ولنا. تركته مسرعاً واعتليت سطح البيت من جديد، فانتظرت القطط حتى عادت، وما أن تقابلت أنظارنا حتى تسمّرتُ في المكان مطمئناً لها، إلا أنّي فشلت في الأولى والثانية والثالثة والرابعة، لكنّي نجحت اليوم، وها نحن نتشارك الفطائر والبيت، وآمنت حينها أن فلسطين لن تعود حتى تعود الغزلان؛ حتى يعود الإنسان !