تختلف طبائع الناس وسلوكياتهم باختلاف العوامل المكونة لشخصية كل منهم، كالصفات الوراثية والبيئة ودرجة التعليم وما إلى ذلك، ولعلّ أكبر موجّه ومؤثر في سلوك الشخص – حتى في ظل اعتبارنا للعوامل السابقة – هو معرفته بطبيعة تصرفاته وسلوكه، وإحساسه بما يصدر عنه، إضافة إلى اهتمامه بما يحدثه التصرّف من ردّات فعل من قبل الآخرين.
وما دامت التصّرفات الاجتماعية الصادرة عن أي شخص، تؤثر على طرف آخر، فلا بد من اعتبار ردّة فعل ذلك الطرف..
والمجتمع حولك يعتبر مراقباً لسلوكك الاجتماعي بصفة عامة، دون الدخول في تفاصيل من قبيل ما إذا كان ذلك المجتمع أهلاً لتقييم السلوك أم لا؟.
وقد جاء الإسلام ليتمم مكارم الأخلاق وفضائلها، ومجتمعنا تكثر فيه المكارم- بصفة عامة-
إضافة إلى كونه مجتمعاً مسلماً؛ أي أن المكارم فيه تأخذ الطابع الديني، الحضاري.
ماذا نعني بسيكولوجية التسلّط ؟
إن المكارم والقيم السائدة في المجتمع كثيراً ما تفسدها تصرفات الأشخاص أو بعضهم على الأقل.. فالأشخاص ذوو النفسيات المتسلّطة (الفظّة) يفسدون في الأرض أكثر مما يصلحون، في الوقت الذي يرون فيه أنفسهم أنهم (مصلحون كبار)، خاصة إذا ما تدثروا بميزة اجتماعية أو أكثر!!.
الشخصية المتسلطة بطبعها تود فرض وجودها بطريقة أشبه ما تكون بالسلوك الأمريكي المعاصر.. فإذا ما حصلت مثل هذه الشخصية على أية ميزة اجتماعية، فإنها تسقط كل مخزونها من التسلط، بكل مخزونها من الفظاظة والغلظة، على الطبقة أو الفئة التي تمتاز عليها بتلك الميزة الاجتماعية.. ولأفصّل أكثر:
– تسلط مدرسي :
لعلك تذكر من مرّ عليك من المعلمين القساة الذين لا يعرفون للرحمة معنىً ولا للرفق سبيلاً.. ولعلك وقفت حينها تسائل نفسك عن السبب أو الأسباب التي تجعل من الأستاذ الفلاني ملكاً للرفق والرحمة والسمو، وتجعل الآخر من الفظاظة بحيث يحيل المدرسة إلى جحيم؟!.
الأشخاص ذوو النفسيات المتسلّطة (الفظّة) يفسدون في الأرض أكثر مما يصلحون
إذا تذكرت معي بعضاً من تلك المشاهد، فإنني أعود إلى القول بأن مثل ذلك المعلم الفظ، لم يصبح فظاً بعد أن عمل في مجال التدريس، لكنه كان كذلك من قبل..
لكن المشكلة ليست في أنه كان فظاّ، وإنما في إسقاط تلك الفظاظة والغلظة على من يفترض أن يتلقوا منه سلوكاً راشداً ويتعلموا منه قيماً رفيعة!!.
والأعجب من ذلك كله، أن تلك الفظاظة – وهي سلوك خاطئ – يتم تغليفها بما يسمى بمكانة المعلم:(من علمك حرفاً صرت له عبداً) ومن ثَم إضافتها إلى مخزوننا من القصص (التربوية) التي تحكي عن زمان كان التلاميذ فيه يتركون الطريق للمعلم، ويخافون منه خفا شديدا
– وأرجو أن يفهم كلامي على وجهه.. فما يؤرق ليس السلوك الخاطئ أو الأخطاء التي تقع من أي شخص كان، ولكن المؤلم حقاً هو تغليف تلك الأخطاء وتأطيرها وتبريرها بما يعطي المخطئ حصانة اجتماعية تدفعه لمزيد من الأخطاء واللامبالاة..
– تسلّط أسري:
ولنأخذ مثلاً بالزوج في الأسرة سواء كان زوجاً فقط، أو كان أباً كذلك.. فكثيراً ما تسمع شكوى الرجل من زوجته حيناً ومن عقوق أبنائه أحياناً أخرى، لكنك قليلاً ما تسمع عن محاسبته لنفسه أو (شجبها على الأقل)..
ومثل هذه الشكوى عادة ما تصدر من شخص يحمل بين أضلاعه نفساً تحب أن تطاع فلا تعصى، وتقول فلا يرد قولها، وتأمر فيستجاب لها.. ولكن، ما يفوت على مثل هذه الشخصية أن السلوك يورّث والطبع يعدي، فإذا ما أكثرت من التعامل بتلك الطريقة، انتقل الطبع تلقائياً إلى الزوجة والأبناء، وبالتالي تتصادم النفسيتان المتماثلتان في الغلظة والفظاظة، وها هنا (تتنافر الأقطاب المتشابهة)!!.
– تسلط مستمر:
ضربتُ مثلين بالمدرسة والأسرة لأنهما أهم المحاضن التي تقدم الأفراد للمجتمع، فإذا ما أُخرج الفرد للمجتمع الكبير وقد تلقى من دروس التسلط والفظاظة ما تلقي – حينها لا يُلام بقدر ما يلام من كوّنوا شخصيته تلك..
– عندما يصبح ذلك الشخص موظفاً، فإنه سيعامل زملاءه بتلك النفسية الفظة.
– وعندما يسكن مع آخرين سواء في داخلية أو بيت مستأجر، فإنه سيتصرف بنفس ذلك السلوك.
– وعندما يصبح من أهل الدعوة والإصلاح، فإنه يحتفظ بنفسيته تلك، ويسقطها على غيره خلال تقديمه للنصح والإرشاد، فيسيء إلى مفهوم النصح نفسه، فضلاً عن أن يحقق نصحه أثراً!!.
ولعل القارئ الكريم يتساءل – بعد عرض تلك النماذج – عن الأسباب التي أدت إلى تكوينها بهذه الصورة..
وللإجابة عن هذا التساؤل:
أولاً: ما دامت مشكلة (نفسية التسلط) اجتماعية، فإنها ترتبط بطرفين أو أكثر من مكونات المجتمع، وبالتالي فعند حدوث أي مشكلة اجتماعية ينبغي ألا يوجه اللوم إلى طرف واحد، ومن ثم تحميله المسؤولية؛ فالمسؤوليات متداخلة ومشتركة ومتبادلة..
ثانياً: عند تعرضنا لمعالجة المشكلات الاجتماعية، يجب ألا نعطي بعض الأطراف (حقا مقدسا) فنضعهم دائماً في الـ Safe Side، لما يمتازون به من (ميزات تفضيلية).
أما الأسباب التي تؤدي لتأطير نفسيات التسلط لدى بعض أفراد المجتمع– خاصة من يمتازون بميزات اجتماعية تفضيلية– فمنها برأيي:
– أن الخطاب التربوي بصفة عامة والدعوي بصفة خاصة، عاش حيناً من الدهر وهو يتناول الموضوعات التربوية والاجتماعية كـ(برّ الوالدين وطاعة الزوج واحترام المعلم وتوقير الكبير ومساعدة الضعيف) – من ناحية واحدة فقط، بالرغم من أن كلاً من تلك الموضوعات تخص طرفين اثنين أو أكثر… فهل مرّ عليك درس عن (حقوق الأبناء) مثلاً، في المنهج المدرسي؟!.
– هذا الخطاب أحادي الاتجاه والتوجيه أدى إلى ترسيخ مفاهيم خاطئة عن حقوق المذكورين وصلاحياتهم وما إلى ذلك، وبالتالي سبب احتقاناً في الأطراف المقابلة، مما أدى– بمرور الوقت- إلى حدوث ردّات فعل (وانفجارات اجتماعية) هنا وهناك، فانتبه بعض المصلحين إلى الأمر، وأخذوا في الدعوة إلى التوازن في الخطاب الدعوي، خاصة بعد دخول بعض المتخصصين في المجالات التربوية والاجتماعية– مجالَ الدعوة في ظل الصحوة الإسلامية المباركة.
كثيراً ما تسمع شكوى الرجل من زوجته حيناً ومن عقوق أبنائه أحياناً أخرى، لكنك قليلاً ما تسمع عن محاسبته لنفسه
– لكن هذا التطور النوعي في الخطاب الدعوي، ما يزال بحاجة إلى التفعيل، خاصة في مجتمع ما زالت فيه المساجد والزوايا هي وسيلة الاتصال الدعوي الأولى أو الرئيسة.. وإذا كانت الدراسات والاستشارات التي تنشر على الانترنت أو الصحف تتناول الموضوعات الاجتماعية بجميع أبعادها، فما زالت التوجيهات والدروس في المساجد والزوايا- في معظمها- تنتهج الطريقة التقليدية آنفة الذكر.
ذكرت سبباً واحداً من جملة أسباب– بطبيعة الحال– لارتباطه الوثيق– برأيي– بنفسية التسلط التي ذكرت.. فالشخص المتسلط ينتهز الفرص ويبحث عن (الأغطية والمسوغات) التي تبرر سلوكه الخاطئ، وتوفر له (حصانة اجتماعية)، وتلقي في نفس الوقت باللوم على الطرف الآخر..
فما بالك بشخصية من هذا النوع إن وجدت غطاء دينياً – بحسب الخطاب الدعوي المذكور– وأضافت إليه ما ترسّب في مجتمعنا من مفاهيم تخدم مصلحتها، لتجعل من كل ذلك (ملفاً) غير قابل للتفاوض؟