تناولت ندوة الأمة ضمن فعاليات الموسم الثقافي الثاني قضية «ثقافة الاعتدال والتسامح» على مستوى (الذات) و(الآخر)، وذلك من أجل مدّ جسور التواصل والتعارف بين الثقافات والحضارات والديانات، وبيان انعكاساتها الإيجابية على علاقات التفاعل الحضاري بشكل عام، وهذه الندوة أشرفت على تنظيمها إدارة البحوث والدراسات الإسلامية في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بجامع الإمام محمد بن عبد الوهاب قطر،
حفلت الندوة بأوراق علمية ثرية قدمها كل من الدكتور محمد الجاسم الأستاذ بكلية الشريعة في جامعة قطر، والأستاذ الدكتور عبد القادر بخوش أستاذ العقيدة والفكر الإسلامي بكلية الشريعة في جامعة قطر، والدكتور إبراهيم بن صالح النعيمي وكيل وزارة التربية والتعليم والتعليم العالي، وذلك في حضور سعادة السيد غانم بن شاهين الغانم وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية وقيادات الوزارة وعدد من الأئمة وطلبة العلم.
تناقشت الندوة قضية ثقافة الاعتدال والتسامح في إطار محاور ثلاثة رئيسة مهمة هي: المحور الاول: الرؤيه القرانيه لثقافة الاعتدال والتسامح، والمحور الثاني: ثقافة الاعتدال والتسامح الذات والآخر، والمحور الثالث: رؤيه مستقبليه وتفعيل دور المؤسسات للارتقاء بثقافة الاعتدال والتسامح. وكل واحد من الضيوف المتحدثين تحدث عن كل محور بحكم التخصص والخبرة في المجال.
عالج الدكتور محمد الجاسم الأستاذ بكلية الشريعة في جامعة قطر في ورقته الرؤية القرآنية لثقافة الاعتدال والتسامح، ووجد أن هذه الألفاظ وإن غاب استعمالها في القرآن الكريم إلا أن الجذر اللغوي حاضر في القرآن، ودلالاتها كذلك موجودة، بل تعد هذه الأمور من القضايا الرئيسية التي دعا إليها الإسلام، والغايات الكبرى التي اعتنى بها، ومن الألفاظ ذات الدلالة القريبة للاعتدال في القرآن الكريم: الوسط – والاستقامة – والرشد، وهذه تدل على معالم منهج الإسلام والشريعة التي يرتضيها الله تعالى.
كما أن القرآن الكريم تطرق إلى موضوع مهم وهو الغلو الديني وفرق بين الممدوح منه والمذموم، ولا شك أن الغلو المذموم جاء النهي عنه قطعا في الشريعة الإسلامية، والغلو استعمال قرآني للدلالة على نقيض الاعتدال، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾ [المائدة: 77]، والغلو الذي يبيحه القرآن الكريم هو الغلو في الحق وهو التوحيد وذلك لأن حاكمية التوحيد هي التي تسوس هذه الدنيا وبها يتبين لنا الحلال من الحرام، والنافع من الضار.
قيم الاعتدال والتسامح في القرآن الكريم
وأكد الدكتور محمد الجاسم على أن لفظ التسامح ينطبق عليه ما قيل في الاعتدال، إذ في القرآن الكريم ألفاظ ذات دلالة متقاربة للتسامح ومنها اللين – واليسر وهذا يرمز إلى هذه القيمة الأخلاقية الكبيرة التي تعد من معالم منهج الإسلام. ولهذا السبب وجدنا المفسرين المتاخرين على وجه الخصوص أمثال ابن عاشور وسيد قطب والشعراوي ومحمد رشيد رضا وغيرهم أطروا على الاعتدال والتسامح ومركزيتهما في منهج الشريعة الإسلامية.
وكذلك يرى الدكتور أن قيم الاعتدال والتسامح في القرآن الكريم عام ومظلة عامة وواسعة وهما بنية التشريع الإسلامي بل الدين الإسلامي وطسية ويعلم البشرية حقيقة الاعتدال، ومظاهر الاعتدال والتسامح في القرآن الكريم تتجلى ذلك في أربع محطات هي: أولا: بنية النظام القرآني والتي تشمل التنوع في الأساليب من أمر ونهي وقصص وغير ذلك، وخطابه للعقل والوجدان، وشمولية خطاب القرآن الكريم. والثاني وهو بنية التشريع في القرآن الكريم وذلك من خلال التدرج في التشريع والتيسير ورفع الحرج وصلاحيته لكل زمان ومكان، وأنه قنطرة بين الدنيا والآخرة.
أما الأمر الثالث من مظاهر الاعتدال والتسامح في القرىة الكريم فيتمثل في معاملات القرآن الكريم السوية السمحة والمعتدلة سواء مع المسلم فردا وجماعة او مع الآخر المختلف المسالم أو مع الآخر المعتدي، حيث بنيت المعاملات في هذه الأوضاع على البر والعدل والمعاملة بالمثل في حالة السلم أو الاعتداء. والمحطة الرابعة لهذه المظاهر هي قضيه التغيير عن طريق الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي كذلك مبنيه على الحب والاشفاق.
الاعتدال والتسامح قيمة حضارية إسلامية
أما المحور الثاني من هذه الندوة العلمية والذي بعنوان ثقافة الاعتدال والتسامح الذات والآخر فقد تحدث عنه الأستاذ الدكتور عبد القادر بخوش بشكل مشوق حين تناول أبعاده من خلال ثلاثة محاور فرعية هي الاعتدال والتسامح على مستوى الذات (المذهب؛ الطائفة؛ الجماعة)؛ والاعتدال والتسامح باعتباره جسرًا للتواصل بين الثقافات والحضارات والديانات؛ وثقافة الاعتدال والتسامح في المجتمع القطري.
قال الدكتور بخوش: الاعتدال والتسامح بين الذات والآخر في الإسلام يتجلى في ثلاث صور أولاها الاعتدال والتسامح كقيمة حضارية إسلامية .. لماذا؟ وكيف؟، وثانيها في علم الأديان في القرآن الكريم وكتابة المسلمين وعلاقته بالتسامح والاعتدال، وآخرها في التعايش الديني والثقافي داخل الدولة الإسلامية.
أثبت بخوش أن الاعتدال والتسامح قيمة حضارية للإسلام من خلال ما شهد به بعض الغرب المستشرقين منهم ماكسيم رودنسون الفرنسي وهو كاتب مهتم بالدراسات وإن كانت اغلب كتاباته فيها تحامل على الإسلام لكنه في الاخير يعترف في كتابه (الإسلام سياسة وعقيدة) أن الإسلام يختلف عن جميع الأديان، لأن هدف كل دين أو كل داعية لدين معين يبني معبدا أو كنيسة، وبعد البناء تنتهي مهمته وتنتهي رسالته، أما الغريب أن في الاسلام البداية تبدأ من بناء المسجد، وضرب لذلك مثلا بالنبي محمد ﷺ، فقد هاجر الى المدينه وبنى المسجد وكان أول نقطه لبناء الدولة، ولم تنته الدولة عند ذلك أو بموته، بل نمت الحضارة.
ومن هنا نلاحظ تميز الإسلام بالفعل، فإنه عندما يتحدث عن قيمة معينة أو خلق معين فليس يتحدث عن شيء مختص بجانب فردي فقط، ولكنه خلق حضاري، قال بخوش: وهذا يوضح ما قلت أن الاعتدال والتسامح والتعايش مع الآخر قيمه حضارية إسلاميه، فهي ليست قيمة داخلية في الانسان فرديه فقط، نعم هي كذلك ولكنها تتعدى إلى الآخر، وتتعدى إلى المجتمع وإلى المخالف.
يرجح الدكتور بخوش أن الاعتدال والتسامح في الإسلام وقيمته الحضارية يتمثل في واقع الناس في صورة التعايش وانتشار ثقافته في أول دولة إسلامية وضع أساسها النبي ﷺ في المدينة المنورة وكتب لها وثيقة تنظم العلاقة بين سكان المدينة من جميع الأطياف والأديان والملل. والتعايش ينبني على أمور ثلاثة بينها القرآن الكريم والسنة النبوية وهي: التعارف والاعتراف بوجود دين آخر والتعاون.
الاعتدال والتسامح وتفعيل دور المؤسسات
من جانبه تحدث د. إبراهيم بن صالح النعيمي في المحور الثالث للندوة عن «الرؤية المستقبلية» حول كيفية تفعيل دور المؤسسات الرسمية والخاصة، على مختلف المستويات؛ للارتقاء بثقافة الاعتدال والتسامح متخذًا من «مونديال قطر 2022م أنموذجًا».
وأكد أن على المؤسسات دوراً كبيراً في الدفع بثقافة الاعتدال والتسامح والحوار وتعزيز تلك الثقافة لدى كافة أفراد المجتمع وإظهار صورة تلك الثقافة أمام الجميع. وذهب إلى أن الإسلام حارب العنصرية والإقصاء ودعا إلى التسامح والاعتدال مستشهدًا بما جاء عن النبي ﷺ حيث قال: «إنَّ اللهَ قد أذهب عنكم عُبِّيَّةَ الجاهليةِ وفخرَها بالآباءِ، مؤمنٌ تقيٌّ، وفاجرٌ شقيٌّ، أنتم بنو آدمَ، وآدم من تراب، لَيَدَعَنَّ رجالٌ فخرَهم بأقوامٍ، إنما هم فحمٌ من فحْمِ جهنمَ، أو لَيكونُنَّ أهونَ على اللهِ من الجِعْلَانِ التي تدفعُ بأنفْها النَّتِنَ».