إن نعم الله تعالى كثيرة لا يأتي عليها العد والحصر. ومن أعظم نعم الله على الخلق الإسلام الذي جاء مهيمناً على الأديان، كاشفاً للتحريف الذي لحق بها. وقد أكمل الله تعالى دينه الإسلام بإنزال شريعته التي جاءت رحمة للعالمين، لما تتميز به من اليسر ورفع المشقة والحرج عن الناس وموافقة الفطرة، كما جاءت بالعدل والمساواة والحرية، وهي قيم سياسية واجتماعية منحت الناس الأمن والاستقرار والرخاء.
وكان القصد من إنزال الشريعة الغراء هو الحفاظ على حقوق الإنسان الأساسية وهي: الدين والنفس والمال والعقل والعرض، وهي نفس الوقت نعم عظيمة.
ونعم الله تعالى ذات شقين: أحدهما مادي والآخر معنوي. والجانب المادي نلمسه من خلال مفهوم التسخير، الذي يستوعب كل ما امتن الله تعالى بها على عباده من نعم وآلاء تنزل من السماء، وتزخر بها الأرض. فجميع النعم التي امتن الله سبحانه وتعالى بها على عباده في كتابه الكريم سخرت للإنسان ليقوم بتعبة الاستخلاف على الوجه الأكمل، ويؤدي رسالته في الوجود بترقية الحياة وتطوير وسائلها، وبناء الحضارة المتوازنة التي تتفاعل فيها متطلبات البدن مع أشواق الروح، ليحيا الإنسان حياة العبودية والطاعة شكراًً للواهب المنعم على ما أجزل وأكرم.
وأعظم من النعم المادية النعم الروحية المعنوية التي يصل بها الإنسان إلى حالة الطمأنينة والسكينة النفسية والتوفيق والسداد، وتؤمّن له السعادة في الدنيا والآخرة. ومن هذه النعم نعمة التكريم والاستخلاف، ونعمة النبوة، ونعمة الهداية للإيمان والتوحيد والإسلام، ونعمة تحبيب الإيمان وتكريه الفسوق والعصيان إلى النفوس المؤمنة، والاجتماع على الإسلام، ونعمة التوبة والتوفيق لها، ونعمة الخيرية والشهود على الناس لتبليغ الرسالة،
وفي المقابل كشف القرآن الكريم طبيعة الإنسان حين يجحد النعم ويغفل ويذهل عن شكر المنعم سبحانه وتعالى، فأبان طبيعة الإنسان الذي تطغيه النعمة وتبطره… وتخرجه عن الصواب. ونعى عليه تقلبه، بالإنابة إلى الله تعالى في حالة الضر، ونسيان ذلك والذهول عنه واتخاذ الأنداد مع الله تعالى في حالة النعمة. كما ذكر الكتاب العزيز توجه الإنسان إلى الله تعالى حال مساس الضر، وعندما توافيه النعمة ينسبها إلى نفسه وعلمه، وفي ذلك سقوط ذريع في الفتنة. ولفت النظر إلى إعراض الإنسان عن ربه وبعده عنه في حالة إنعامه عليه، وتوجهه إليه بالدعاء العريض حين يبتلى بالشر.
وهذه النماذج البشرية لم تذق حلاوة الإيمان وتعرف طعم الإسلام، وإنما تغير مواقفها وفقاً للمصلحة الدنيوية، وتبعا لظروف الدهر، دون أن تعرف حقيقة الإيمان، ومن أصوله: الرضا بالقدر. والإنسان فيه دائر بين الصبر في الضراء والشكر في السراء.
ومن التنبيه بمكان أن القرآن الكريم وجه نظر الإنسان إلى قضية رئيسة وهي: شكر الله تعالى على نعمه بعبادته وطاعته، وعدم الاغترار بما يغدق به من نعم دنيوية على من تنكبوا طريقه المستقيم. فهذا استدراج لهم تتبعه النقمة والعذاب عياذاً بالله تعالى. قال تعالى: { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا ۚ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } (الأنعام: 44-45) وفي حديث عقبة بن عامر عن رسول الله – رضي الله عنه – قال: “إذا رأيت الله ﷺ يعطي العبد ما يحب وهو مقيم على معاصيه فإنما ذلك له منه استدراج”(1).
وفي هذا السياق لفت القرآن الكريم الانتباه إلى مصارع القوم الغابرين الذين أبطرتهم النعم، وسعوا في الأرض فساداً، فلم ينفعهم ما كانوا يتقلبون فيه من نعمة وزروع ومقام كريم، فأورث الله تعالى قوماً غيرهم تلك النعم، سيراً مع سنته التي لا تتبدل: { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } (إبراهيم: 7)، وفي ذلك عبرة وعظة لأولي الألباب.