في سياق علمي يهدف إلى إعادة تأصيل الممارسة النقدية في علوم الحديث الشريف، وتكريمًا للمسيرة البحثية للعلامة الأستاذ الدكتور حمزة المليباري، عقد قسم القرآن والسنة في كلية الشريعة والدراسات والإسلامية، جامعة قطر ندوة علمية حوارية يوم السبت 18 أكتوبر 2025م.

عُقدت الندوة تحت عنوان نحو ترشيد للنقد الحديثي المعاصر: بين مرجعية النقاد المتقدمين وتحرير المتأخرين، وقد شارك في الندوة نخبة من تلاميذ الدكتور المليباري والباحثين المتأثرين بمنهجه. هدفت الندوة إلى تشخيص الإشكالات التي تواجه الباحثين المعاصرين، ورسم خارطة طريق منهجية تعيد التوازن بين أصالة صنيع النقاد الأوائل، والإرث العلمي الثري لعلماء المصطلح المتأخرين.

وقد تناول المتحدثون جوانب مختلفة لموضوع الندوة كل واحد يشكل رؤية منهجية متماسكة ويبرز الحاجة الماسة لضبط الممارسة النقدية في علم الحديث، خاصة مع ظهور ما وصفه المشاركون بـ “الجرأة العجيبة” من بعض المعاصرين على تضعيف أحاديث استقرت الأمة على قبولها.

وسعت الندوة للإجابة على سؤال منهجي مركزي: كيف نتعامل مع التراث النقدي للمتقدمين والمتأخرين بشكل تكاملي لا صدامي؟

لماذا يختلف منهج المتقدمين في نقد الحديث؟ رؤية الدكتور حمزة المليباري

استهل الدكتور المليباري كلمته بتأصيل منهجي، موضحًا أن التعامل مع التراث النقدي يقتضي فهم البيئة المعرفية والأدوات التي حكمت كل عصر. وقسّم المحدثين إلى طبقتين منهجيتين: المتقدمين (أهل عصر الرواية) والمتأخرين (أهل عصر ما بعد الرواية والتدوين)، مؤكدًا أن لكل طبقةٍ أدواتها وخصائصها التي لا يمكن الخلط بينها.

وبيّن أن المنهج النقدي عند المتقدمين لم يكن مجرد تطبيق لقواعد نظرية، بل كان ملكة نقدية عملية قائمة على ثلاثة أركان مترابطة:

أركان النقد عند المتقدمين

  1. الجرد والاستحضار (الحفظ): حيث كان الناقد يستحضر مئات الآلاف من المرويات بأسانيدها ومتونها بشكل فوري، وهو ما لا يتأتى للباحث المعاصر الذي يعتمد على البحث في المدونات المطبوعة والمصادر المحدودة.
  2. المقارنة: وهي عملية ذهنية فورية لمقارنة أي رواية جديدة بمجموع المحفوظ الهائل، بهدف كشف مواطن التفرد أو المخالفة الدقيقة.
  3. المعالجة: وهي مرحلة الحكم النقدي التي لا تخضع لمنطق رياضي بسيط (كمخالفة الواحد للاثنين)، بل تتطلب “الحكم والفهم والمعرفة والممارسة”، وهي ملكة تتشكل من خلال الخبرة الطويلة والقدرة على تقدير القرائن المحيطة بكل حديث على حدة.

وانتقد الدكتور المليباري ظاهرتين سلبيتين في الممارسة المعاصرة:

  • الغلو في التضعيف: المتمثل في “الجرأة العجيبة” على تضعيف أحاديث تلقتها الأمة بالقبول، وذلك بالاعتماد على فهم ظاهري وسطحي لقواعد المصطلح. ومن استفزازات هذه الظاهرة أن ينقل بعض الباحثين تصحيحات المعاصرين وتضعيفاتهم مستغنياً بها عن تحقيق المسألة.
  • الغرور المعرفي: وهو الاعتقاد بأن مجرد حفظ قواعد المتأخرين (كمقدمة ابن الصلاح) يجعل الباحث المعاصر مؤهلاً للاعتراض على أحكام أئمة النقد كالبخاري، وهو خلط بين مستويات المعرفة وأدواتها.
ندوة علمية تضم خمسة متحدثين، يجلسون على منصة، مع وجود شاشة خلفهم تعرض معلومات. المتحدثون يرتدون الملابس التقليدية، ويبدو عليهم التركيز أثناء النقاش. المقاعد مصنوعة من الخشب، وهناك زجاجات مياه على الطاولة.
د. حمزة المليباري المتحدث الرئيس وهو يلقي ورقته

نقد الصحيحين باسم “منهج المتقدمين”: تناقض منهجي خطير

حذر الدكتور أبو بكر كافي من ظاهرة خطيرة تتمثل في نقد بعض المعاصرين للصحيحين بدعوى إعمال منهج المتقدمين”، ووصف هذه الدعوى بأنها تحمل تناقضًا في ذاتها، إذ كيف يمكن استخدام منهج إمامين هما على رأس المتقدمين (البخاري ومسلم) لنقض عملهما؟

نية حسنة ونتائج وخيمة

 أوضح الدكتور كافي أنه على الرغم من أن الباعث على هذا النقد قد يكون نية حسنة (حب السنة وتنقيتها)، إلا أن هذه الفكرة خطيرة جدًا في حالها ومآلها لعدة أسباب:

  1. زعزعة الثقة بأوثق المصادر: تفتح الباب للتشكيك في الكتابين اللذين يمثلان قمة ما وصلت إليه جهود الأئمة النقاد.
  2. إعطاء سلاح للطاعنين: تقدم مادة خصبة للحداثيين وغيرهم للطعن في السنة جملة، فإذا كانت أوثق الكتب تكتشف فيها “أخطاء” بعد قرون، فهذا يشكك في المنهج النقدي الإسلامي بأكمله.
  3. الخطر يأتي من أهل الاختصاص: بخلاف النقودات السابقة التي جاءت من غير المتخصصين، تأتي هذه الدعوى من داخل الدائرة الحديثية، مما يعطيها مصداقية زائفة ويزيد من خطرها.

تجاهل المنهج العام والتمسك بقواعد جزئية

يرى الدكتور كافي أن أصحاب هذا التوجه يقعون في خطأ منهجي كبير، وهو إعمال قواعد جزئية مع الجهل بالمنهج العام الذي اتبعه الشيخان في التصنيف. وأوضح أن منهج الشيخين لم يكن عملاً فرديًا، بل كان “جهدًا مجمعيًا” متكاملًا يقوم على أسس صارمة:

  • الانتقاء الدقيق: لم يكن الهدف مجرد الجمع، بل انتقاء أصح المرويات وأوثق الرواة.
  • مراعاة الشهرة والعمل: تجنب الأحاديث الغريبة والشاذة، والحرص على إيراد ما استقر عليه العمل وتداولته الأمة.
  • العرض على كبار النقاد: عرض الإمام البخاري كتابه على علي بن المديني ويحيى بن معين، وعرض الإمام مسلم كتابه على أبي زرعة الرازي، مما يجعله عملًا حظي بإجماع ضمني من نقاد العصر.
  • التمحيص عبر الأجيال: خضعت هذه الكتب لنقد وتمحيص مستمر من أجيال العلماء (كالدارقطني)، مما يعني أن ما سلم من النقد قد مر على عقول كبار النقاد عبر القرون.

وخلص إلى أن الصحيحين يمثلان القاسم المشترك الذي تجتمع عليه طوائف الأمة، وأن المساس بهما بدعاوى غير مؤصلة يمثل خطرًا على المرجعية العلمية للسنة النبوية.

صحيح مسلم ونظرية “الإشارة للتعليل”: تفنيد علمي

قدم الدكتور سعيد محمد البديوي المري دراسة تطبيقية معمقة حول “نظرية إشارة مسلم للتعليل في صحيحه”، وهي فكرة توسع في تبنيها بعض المعاصرين، ومفادها أن الإمام مسلمًا كان يورد في كتابه أحاديث معلولة بقصد الإشارة إلى علتها. وقد فنّد الدكتور البديوي هذا التوسع من خلال تحليل منهجي دقيق، مستندًا إلى الأدلة التالية:

  • مقصد الكتاب وشريحته المستهدفة: أكد أن مسلمًا صرّح في مقدمته بأن قصده هو “الاختصار على الصحيح القليل”، وأن كتابه موجه “لعوام أهل الحديث”، وكلا المقصدين لا يتناسبان مع إدراج أحاديث معلولة وتضمين إشارات نقدية خفية تحتاج إلى متخصصين لاستخراجها.
  • الاستقراء الفعلي لصنيع مسلم: أظهر من خلال أمثلة عديدة (كمثال حديث القسامة وحديث ثابت بن قيس) أن مسلمًا حين يجد في رواية ما وهمًا أو خطأً، فإنه يُصرّح بذلك ويحذف الجزء المعلول من الرواية، ولا يثبته في صلب صحيحه، وهذا دليل قاطع على أن منهجه هو تجنب إخراج ما يراه معلولًا.
  • الخلل في منطلق البحث: بيّن أن هذه النظرية غالبًا ما تنطلق من منطلق خاطئ، وهو محاولة “الاعتذار” للإمام مسلم عن إخراجه حديثًا انتقده ناقد لاحق (كالدارقطني)، فيُفترض أنه أخرجه للإشارة إلى علته. والصواب، كما يرى د. البديوي، هو الانطلاق من فهم عميق لمنهج مسلم من داخل كتابه أولًا، والذي يكشف أنه يرى صحة تلك الأحاديث.

وخلص إلى أن تحميل صنيع الإمام مسلم نظريات لم يقل بها ولا يدل عليها استقراء كتابه، هو منهج غير علمي يفتح الباب على مصراعيه للتشكيك في أصح الكتب بعد كتاب الله.

منهج المتقدمين والمتأخرين: تكامل أم صراع؟

تناول الدكتور عبد السلام أبو سمحة العلاقة بين جهود المتقدمين والمتأخرين من زاوية إبستمولوجية (معرفية)، موضحًا أن الخلط بين مستويات العمل النقدي هو الذي يُنتج دعاوى وهمية، كاتهام من يدعو لإحياء منهج المتقدمين بأنه “يهدم جهود عشرة قرون” من عمل المتأخرين. ولحل هذا الإشكال، فرّق د. أبو سمحة بين ثلاثة مستويات للتعامل مع “المقولة النقدية”:

  • صناعة المقولة النقدية: وتشمل “صناعة الأصل النقدي” وإطلاق الأحكام (صحيح، معلول…). وأكد أن هذا المستوى حصري بالنقاد المتقدمين، لا لقدسيتهم، بل لأنهم عاصروا بيئة الرواية وامتلكوا أدواتها الكاملة (الحفظ الشامل).
  • تفسير المقولة النقدية: وهو مهمة شرح وتحرير وتصنيف تلك المقولات وتقديمها في قوالب نظرية. وهذا المستوى هو الذي أبدع فيه الأئمة المتأخرون كابن الصلاح والذهبي وابن حجر.
  • ممارسة المقولة النقدية: وهو تطبيق الأحكام النقدية، وهذا المستوى مفتوح لكل من تأهل من أهل العلم، شريطة أن ينطلق من فهم عميق لأصول المتقدمين وتحريرات المتأخرين معًا.
علاقة القوّلة النقدية بالمفاهيم الاصطلاحية، توضح التفاعلات المختلفة بين المفاهيم، مع تسليط الضوء على المرجعية والنقد، وتحديد المصطلحات.
مستويات العمل النقدي د. عبد السلام أبو سمحة

وبهذا التفصيل، يتضح أن العلاقة بين الفريقين هي علاقة تكامل لا تناقض.

وكشف الدكتور أبو سمحة أن براعة المتأخرين الفائقة إنما تجلت في صناعة الدرس الحديثي المصطلحي، وعدَّ عمل ابن الصلاح في “المقدمة في علوم الحديث” عملًا عبقريًا، استجاب فيه لمتطلبات عصره في ضوء تدريسه في المدرسة الأشرفية بالشام، فأخرج للطلبة كتابه العظيم باعتباره مدخلًا مهمًا لتأهيلهم في التعامل مع كتب المتقدمين، فكان نتاجًا عبقريًا لهذا الغرض. وكما وصفه الحافظ ابن حجر: “عَكَف الناسُ عليهِ، وساروا بسَيْرِهِ، فلا يُحْصَى كم ناظمٍ له ومُخْتَصِرٍ، ومستدرِكٍ عليهِ ومُقْتَصِرٍ، ومعارِضٍ له”.

ومن هنا يتضح الفرق بين المقولة الاصطلاحية في ظلال النقد الحديثي، والتي اتسمت بـ:

  • القرب من الحالة النقدية الواقعية.
  • الاتساع الدلالي في سياق الاستعمال.
  • البُعد عن التداخل مع علوم أخرى كأصول الفقه والمنطق.

وبين المقولة الاصطلاحية في سياق الدرس الحديثي، التي جاءت استجابة للحاجة المدرسية، فتميزت بـ:

  • التحرر ضمن إطار الدرس الحديثي.
  • التضييق الدلالي بالاقتصار على استعمال واحد أو أكثر من استعمالات المتقدمين، دون ابتداع دلالات غير واقعية.
  • التأثر بعلم المنطق والحدود، وأصول الفقه.

وحذّر د. أبو سمحة من أنماط سلبية في التعامل مع تحريرات المتأخرين، أبرزها:

  1. الإهمال والهدم: وهو منهج باطل لا يقوم على حجة ولا يستند إلى دليل.
  2. النسقية الحاكمة: التي تعتبر التقريرات الاصطلاحية حاكمة على التطبيقات النقدية في عصر الرواية، وهو أمر بالغ الخطورة.
  3. الإسقاط المصطلحي: أي الخلط بين اصطلاحات متشابهة في التسمية ومختلفة في المضمون، مما يؤدي إلى إساءة فهم إطلاقات النقاد في ضوء التقريرات الاصطلاحية.

وأكد د. أبو سمحة على واقعية تحريرات المتأخرين في سياق الدرس الحديثي، وأنها تمثل البوابة الأولى للولوج إلى علوم المتقدمين. ودعا إلى تبني علاقة صحية بين المتقدمين والمتأخرين، تقوم على فرضية الدراسات الاصطلاحية المقارنة، عبر مسارين:

  • المسار الأول: البحث في القواعد والدلالات الاصطلاحية المقررة في كتب المصطلح، والانطلاق منها دون التسليم المطلق بها.
  • المسار الثاني: البحث في القواعد والمقولات النقدية في ضوء الممارسة النقدية لنقاد عصر الرواية، من خلال كتب الرواية والعلل والسؤالات والتواريخ وغيرها.
رجل يتحدث في ندوة بينما يجلس ثلاثة رجال آخرين في مقاعد. خلفية العرض تحتوي على نص عربي يتناول موضوع المجتمع الحديث وتطور القوانين. القاعة مجهزة بأجهزة عرض وأدوات للعرض.
ندوة نحو ترشيد النقد الحديثي المعاصر

آفاق الدراسات الحديثية: من نقد النقد إلى البناء لمواجهة الحداثة

قدم الدكتور أحمد صنوبر رؤية مستقبلية للدراسات الحديثية، داعيًا إلى الانتقال مما سمّاه مرحلة ما بعد ثنائية المتقدمين والمتأخرين. وأوضح أن النقاشات التي أثارها الدكتور حمزة المليباري وغيره في التسعينيات كانت “عصرًا ذهبيًا” أعادت الاعتبار للمنهج النقدي الدقيق عند المتقدمين.

لكن هذه المرحلة، على أهميتها، أفرزت إشكاليتين خطيرتين:

  1. جرأة في نقد المتأخرين: أدت إلى ازدراء جهود أئمة كابن حجر والذهبي.
  2. جرأة في نقد أحاديث مستقرة: حيث قام البعض بتضعيف أحاديث تلقتها الأمة بالقبول (مثل حديث صيام يوم عرفة) بدعوى إعمال منهج المتقدمين، مما أدى إلى حالة من الهدم والتشويش والفوضى المعرفية.

من الهدم إلى البناء: ضرورة المرحلة القادمة

 يرى الدكتور صنوبر أن الانشغال بـ “نقد النقد” (مثل الجدل حول حديث عرفة) هو استنزاف للجهود. والمطلوب الآن هو الانتقال إلى مرحلة البناء، ويقصد بالبناء:

تأسيس بناء منهجي متكامل يقدم علم الحديث بوصفه علمًا عالميًا في التحقق من الأخبار، قادرًا على مواجهة ما طورته الإنسانية الغربية في فلسفة التاريخ ونقد المصادر.

هذا البناء هو السبيل لمواكبة العصر وحل الإشكالات التي تواجه المثقفين والشباب المسلم أمام الطرح الاستشراقي والحداثي.

كيف نبني هذا الصرح؟ نماذج عملية

اقترح الدكتور صنوبر استثمار علم العلل كمنهج نقد تاريخي متقدم، ليس من خلال الردود الجزئية، بل عبر بناء نظريات متكاملة، مثل:

  • نظرية الانسجام: إظهار التماسك القوي بين الرواية والنقد والجغرافيا والتاريخ في عصر الرواية، وهو ما يدحض نظريات المستشرقين (مثل نظرية “الراوي المخترع” عند يونبول) بشكل بنيوي.
  • علم اجتماع الأسانيد: دراسة الشبكات الاجتماعية خلف الإسناد، لإثبات أن الإسناد هو “نتيجة” لواقع اجتماعي حي، وليس مجرد سلسلة أسماء مخترعة.
  • إبراز منهج النقد التاريخي الحديثي: علم العلل هو علم تاريخي وليس دينيًا فقط. ومثال “العلل غير القادحة” يثبت ذلك، حيث ينقد المحدثون الإسناد لخطأ تاريخي (راوٍ لم يسمع من شيخ معين) مع أن الحديث يبقى صحيحًا لأن كل الرواة ثقات. هذا يثبت أن الهدف هو الدقة التاريخية المطلقة.
  • تفكيك النظريات الاستشراقية: استخدام منهج المتقدمين لتفكيك نظريات مثل “النمو العكسي للأسانيد” عند شاخت، كما فعل الباحث جوناثان براون بناءً على أطروحات الدكتور حمزة المليباري.

وختم الدكتور صنوبر بأن على الباحثين تجاوز الجدل الداخلي والانتقال إلى مرحلة البناء المعرفي الذي يخاطب العصر وتحدياته.