دراسة المقارنة بين المحدثين والأصوليين في منهجية نقد السنة النبوية من البحوث المعاصرة التي تتناولها الأقلام بين الفينة والأخرى، إما بشكل مستقل بين دفتي الكتب أو في ثنايا وطيات الدراسات، والتي تشير إلى أنها دراسة مهمة تستدعي العناية حتى كأنها من مباحث علم الحديث العتيق. بل تحمل بعض الدراسات الحديثة عنوانا كبيرا حول الاختلاف بين المحدثين والأصوليين في منهج نقد الحديث سندا ومتنا، قبولا وردا على قانون مطرد، غير أن إيراد هذه الإطلاقات الكلية في دعاوى التباين بين الفنين- الحديثي والأصولي- في نقد السنة غير لائقة، وهي إطلاقات جائرة عند عامة أهل التخصصين.
وقد انبرى الأستاذ حاتم بن عارف الشريف للموضوع، فناقش فكرة الموازنة بين الأصوليين والمحدثين في نقد السنة، وساق من الأدلة المستمدة من واقع تاريخ التراث العلمي والعملي الصحيح والصريح على دحض أساس الفكرة، وخلاصة مناقشة الدكتور حاتم تنتظم عبر محورين أساسيين هما: المؤخذات وواقع تقريرات الأصوليين في نقد السنة.
المؤاخذات
تظهر بعض الملاحظات والمؤاخذات المنهجية التي لا تخلو منها أي دراسة من أصحاب التقسيم بين المنهج الحديثي والمنهج الأصولي في نقد الحديث، ومنها:
1 – تجاهل أصحاب الدراسات اختلاف تقريرات الأصوليين أنفسهم، وكأنه لا وجود لمن وافق المحدثين من الأصوليين في منهج نقد السنة مما يجعل المرور على المسألة بلا تمحيص علمي عملا غير علمي وبعيدا عن المنهجية الصحيحة كل البعد.
2 – عدم تحديدهم من أصحاب الأصول المخالفين لمنهج المحدثين في النقد، هل يقصدون بالأصوليين أئمة المذاهب المؤسسين – مالك والشافعى وأحمد والليث والأوزاعي… ؟
فإن ادعوا أنهم قد قصدوا هؤلاء، فليدركوا أن هؤلاء كانوا في عصورهم أئمة الفقه – وهم أصل الأصول- وهم أئمة الحديث أيضا، بل هم من أئمة النقد ثم كيف ينسب إليهم خلاف المحدثين وهم المحدثون؟!
3 – كثير من المصنفين المتأخرين في علوم الحديث هم أصوليون فقهاء بدءاً بالخطيب والبيهقي وابن صلاح والنووي وأمثالهم، وكيف ننسب مثلا للمحدثين رأيا من تقرير النووي يخالفه الأصوليون الذين منهم الإمام النووي أيضا، فهل النووي المحدث يخالف النووي الأصولي؟ وهذا المثال- وأمثاله- يدلك على فداحة خطأ الفكرة.
4 – كيف يمكن تصور المنهج الخاص بالأصوليين في نقد السنة مع أن كثيرا من أئمة الأصول يذكرون في شروط المجتهد شرط العلم بالسنة وأنه يكفي في علمه بالسنة أن يعتمد جهود نقاد السنة، ألا يدل ذلك على اعتمادهم التام لمنهج المحدثين النقدي؟
إذن، يجب على أصحاب دعوة إطلاق التقسيم الحاد بين التخصصين أن يحددوا مقصودهم بالأصوليين ومقصودهم من المحدثين وأن لا يكون منطلق كلامهم قائما على دعوى وجود منهج حديثي مقطوع باعتماده لدى الأصوليين يخالفون فيه منهج المحدثين.
واقع تقريرات الأصوليين الحديثية
ثم دعونا ننتقل إلى فكرة أخرى – تبين مدى ضعف مأخذ دراسة الموازنة بين الأصوليين والمحدثين في منهج النقد، وهي – أن من أمعن النظر في تقريرات الأصوليين في قواعد علوم السنة سيجد أنها لا تخرج عن حالتين:
الحالة الأولى: أن يظن الأصوليون في تقريرهم لمباحث السنة النقدية أنهم يقررون ما سار عليه المحدثون، ويحسبون أنهم يكتبون تقعيدا موافقا لمنهج المحدثين إذ لا يستجيزون لأنفسهم مخالفتهم، بدليل:
1 – تصريح الأصوليين بوجوب رجوع الفقيه المجتهد إلى أحكام نقاد الحديث لتمييز صحيح المرويات من ضعيفها، كما تراه من حكاية الإمام الشافعي في كتبه عن نفسه وعن مناظره محمد بن الحسن الشيباني الحنفي ما يدل على اعترافهما التام بالتسليم لمنهج المحدثين النقدي.
2 – تعظيم الأصوليين البالغ لجهود المحدثين في تمييز صحيح السنة من سقيمها، واعتبروا الصحيحين – البخاري ومسلم- المرجع الأول لمعرفة صحيح السنة، واتفقوا على وجوب العمل بأحاديثهما، بل مال كثير منهم إلى إفادتهما خبرا يقينيا.
3 – عدم إبراز الأصوليين لجهد تطبيقي في نقد السنة يخالف ما كان عليه المحدثون منذ تأسيس علم الأصول حتى اليوم، وليس لهم عمل تطبيقي آخر – ككتاب في صحيح السنة – في تمييز المقبول من المردود من المرويات رغم توفر كل دواعي مثل هذا التأليف والتي تتلخص في:
أ – مصدرية السنة الأساسية في التشريع ومكانتها العظمى من الدين.
ب – وفي وجود منهج غلط يزعم تمييز صحيحها من ضعيفها انفرد بهذا العمل الخطير!!
ولماذا تستمر هذه القرون على الاكتفاء بجهود المحدثين وحدها لو كان للأصوليين منهج نقدي يخالف منهجهم؟
ولأجل هذه الأدلة الثلاثة السالفة يصح القول بأن الأصل في تقرير الأصوليين عند مباحثهم للسنة أنهم يقرون بمنهج المحدثين ولا يخرجون عنه.
نعم في تقريرات الأصوليين الحديثية منها ما وافق منهج المحدثين فعلا – وهو كثير بحمد الله – ومنها ما قد عارضه، وهو محل البحث عادة من قبل الدارسين، ولكن ما قيمة معارضة من لا يظن نفسه معارضا، بل معترفا أن عمله يقتصر على تلمس منهج المحدثين كما هو حاله في تقرير مناهج أئمة الفقه، فليس من عمل الأصولي تخطىء الأئمة المجتهدين في أصولهم الفقهية، ولو قيل للأصولي: هل تخالف المحدثين في منهجهم النقدي؟ لقال: سبحانك هذا بهتان عظيم!!
الحالة الثانية: أن يصرح بعض الأصوليين بخلافهم لمنهج المحدثين، وهو أمر قليل جدا في تقريراتهم الأصولية، بل مناقض لتقريراتهم الكلية السابق بعضها، وقد وجد (بالاستقراء) أن معارضة الأصوليين للمحدثين بالصراحة لا تخرج عن صور ثلاث:
الأولى: أن يكون الاختلاف لفظيا لا أثر له.
الثانية: أن يكون الاختلاف حقيقيا، لكن يكون الرأي المنسوب للمحدثين ليس رأيا لهم على الحقيقة وإن توهمه الأصولي رأيا، ومن أسباب حصول الوهم:
1– رجوع بعض الأصوليين لمحدثي زمانه، والذين هم غالبا – من بعد القرن الرابع – رواة أكثر منهم نقاد، ولا يمثل رأيهم اجتهاد النقاد في تصانيفهم.
2– رجوعهم لتقريرات متأخري المحدثين في علوم الحديث والتى ليست دائما معبرة عن منهج المجتهدين المحدثين.
3– يقع التوهم بسبب خطأ الأصولي في فهمه لكلام المحدث، فيفهم ما حقه مقيد مطلقا وما هو مخصص يحمله على العموم
الثالثة: أن يكون الأصولي- وهو عالم واحد- يقرر تقعيدا يخالف فيه المحدثين حقيقية ويكون مخطئا، لأنه تدخل في غير فنه مع اعترافه بتقليده لأهل الحديث في النقد.
وبهذا المسلك الرشيد والتحرير المحكم – من الدكتور حفظه الله- يتضح لطالب الحق المنصف أنه لا ينبغى إطلاق القول جزافا دون تروٍّ وتأمل وتثبت، وليس كل خلاف مرويا في كتب علوم الحديث والأصول يتحقق بموجبه وجود خلاف حقيقي في أصول المذاهب إلا أن يدعم بأدلة مقنعة، وخاصة في كتب المتأخرين المشوبة بالخلافات تحتاج إلى إعادة النظر، وكم من أقوال نسبت إلى المذاهب لم يقل بها الأئمة، ألم تر وتسمع برد الحنفية – مثلا – خبر الواحد إذا خالف القياس أو لكونه فيما تعم به البلوى أو نحو ذلك، وعند التحقيق تجد أنه منهج مستحدث بعد أئمة المذهب في التعامل مع السنة النبوية، وقس على ذلك كثير مما يقال إنه منهج أصولي في نقد الحديث وأئمة الأصول منه براء.
ولا يخطر في البال أو يقول قائل: لم المشاحة في مثل هذه الدراسة ألا تتسع فيها دائرة الأفق العلمية والآراء ووجهة النظر إذ لا إنكار في المسائل الخلافية؟ فيجاب على ذلك من وجهين:
أولا: أن هذه القضية ليست هامشية أو من فضول العلم ونوافله حتى يغض الطرف عنها، بل هي قضية تخصصية عميقة عظيمة التى يجب احترامها، وليس ثمة تخصص إلا وله أهله وأصول وضوابط تحكمه، فالواجب التنويه بمنع ما لم يكن مختلف فيه يومئذ أن يصير أمرا مختلفا فيه بعد ذلك، فلا يختلط الحابل بالنابل.
ثانيا: أن من نتائج القول بوجود الخلاف الحقيقي بين منهج المحدثين والأصوليين في نقد السنة زيادة في انشعاب الطعون التي تدور رحالها اليوم حول السنة النبوية، والسعي الحثيث المستمر في إسقاط عصمتها من قبل أدعياء التجديد العصرانيين المتطلعين للوصول إلى وضع الغرب من التقدم والتحضر، والذي لا يتحقق – في ظنهم – إلا بالتحرر من سلطة النصوص والثورة عليها بشتى الطرق المتاحة الموصلة لتلك البغية، كإثارة مثل هذه الموضوعات المنهجية المقللة من جهود المحدثين والمنتقصة من قيمة منهج النقد الحديثي، بعد أن اتفق عقلاء الدنيا على أنه لن يوجد في تاريخ البشر منهج النقد الأمثل في تمييز صحة المنقول من غيره سوى منهج النقد عند أهل الحديث، وهو سياج نقدي منيع الذي يحول دون تسلل أيدي العابثين لبيضة الإسلام والمسلمين.