ساهمت المرأة في تحقيق دورها التكاملي في المجتمع الإسلامي، في كل مرحلة احتاج لها، فهي العالمة والمحدثة والشاعرة والأديبة، وتسابقت مع الرجل في الأدوار الخيرية “الفكرية والاجتماعية”. فكان للوقف[1] النسائي حضور في كل ما يمكن أن يُطلق عليه ازدهارٌ عمراني واجتماعي واقتصادي وديني في الحضارة الإسلامية. فقد شكل الوقف النسائي في العهود الإسلامية الأولى أهمية محدودة، رغم أن الفقهاء لم يتشرطوا ذكوريته، بل أجازوا أن تكون المرأة واقفة، وناظرة عليه، إلا أنه في المراحل الأولى عبَّر عن أدوارٍ فرديةٍ متفرقة، حيث ترجع أول إدارة وقفية إلى أم المؤمنين حفصة، التي عهد إليها الخليفة عمر بن الخطاب بمهمة الإشراف على بعض الأوقاف التي يملكها في حال وفاته، واشتهرت بالأوقاف في العصر العباسي زبيدة زوجة الخليفة العباسي هارون الرشيد (رحمه الله).

وغالباً يرتبط في وفاء التزامات الدولة الإسلامية تجاه رعاياها (حفر آبار على طريق الحج وإقامة النزل والخانات على طرق القوافل التجارية). ولكن في الفترة الأيوبية شهد الوقف النسائي تطوراً ملحوظاً، فشاركت خلاله المرأة في تنمية العمران الاجتماعي والتنمية الاقتصادية، بكل ما قصده ابن خلدون في هذا المصطلح من معان. فما أسباب هذه الطفرة الوقفية النسائية في بلاد الشام خلال العهد الأيوبي؟ وما أثر الحركة الوقفية للمرأة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية؟

أولاً:دوافع الحركة الوقفية النسائية في بلاد الشام في العهد الأيوبي

إثر قضاء السلطان صلاح الدين الأيوبي على الدولة الفاطمية، شهدت بلاد الشام ازدهاراً في حركة المجتمع الجهادي “العلمية والدينية”، وأصبحت دمشق قلب العالم الإسلامي، وتسابق القادة الأيوبيين ونساءهم ورجالاتهم في تشييد المؤسسات الوقفية، لدرجة دفعت ابن جبير الذي زار دمشق وقتها، للقول: “إن البلد تكاد الأوقاف تستغرق جميع ما فيه.

كان هناك اهتمام رسمي أيوبي في إدارة ومؤسسة الأوقاف لعوامل سياسية واجتماعية وخيرية، فهو لمجابهة حركة التشيع الذي سببه تأثير دعوة الفاطميين خلال حكمهم على مصر والشام من جهة، ومن جهة ثانية لتثبيت أركان الأيوبيين ليستمروا في حكم بلاد ليسوا منها؛ فأصولهم أكراد من أواسط آسيا ويحكمون بلاداً غالبية سكانها من العرب، وكانوا خدماً وأمراءَ حربٍ لدى سادتهم السلاجقة والزنكيين. وبالتالي، هم استخدموا الوقف لتدعيم سلطتهم، فعملوا على تكوين طبقة نخبوية مثقفة تساندهم في الحكم وتابعة لهم، كما رأوا بأن الوقف يخلق مجتمعاً تراحمياً يترجمه الفرد المسلم في جهاده وعِلمه وعَمله.

ثانياً:نماذج للنساء الواقفات “نساء الوقف الأيوبي” في بلاد الشام في العهد الأيوبي

شاركت سلطانات وأميرات الأسرة الأيوبية “الخاتونيات” في بناء المؤسسات التعليمية، وأوقفن عليهن أوقافاً لا حصر لها، وكُنَّ يُنشئن المدارس للصبيان لتعلم الحديث الشريف والمذاهب الفقهية. وتنوعت الأوقاف النسائية الأيوبية في بلاد الشام، وحظيت دمشق بحصة الأسد، كونها عاصمة السلطنة، ومركز السلاطين، وقاعدة جهاد ضد الصليبيين في السواحل الشامية. ومن أبرز النساء اللاتي أوقفن هُنَّ:

عصمة الدين خاتون زوجة صلاح الدين، وقد ذكر ابن طولون، بأنها كانت من أحسن النساء، وهي واقفة مدرسة الخاتونية الجوانية في دمشق.

الخاتون ست الشام بنت أيوب أخت الملوك، وعمة أولادهم، وهي من أكثر النساء صدقة وإحساناً للمحتاجين، وأوقفت مدرسة الشامية البرانية على الشافعية، وقد أوقفت عليها أوقاف قدرت بثلاثمائة فدان.

ربيعة خاتون، وهي أخت صلاح الدين، وأوقفت المدرسة الصاحبية للحنابلة، وذكر أن من أوقافها قرية جبة عسال، والبستان الذي تحت المدرسة، والطاحون، وجعلت للمدرسة في كل يوم درهمين، وللمعيد درهماً، وللطلبة كل واحد نصف درهم، ويكون طلبة العلم عشرين.

صفية خاتون زوجة الملك غازي بن صلاح الدين، وأوقفت مدرسة الفردوس، لتكون مدرسةً وجامعاً، وتُربةً ورباطاً، وهي أول مجمع في العالم الإسلامي تضم أبنية متعددة الوظائف الدينية والاجتماعية.

وبالإضافة إلى السلطانات والأميرات الأيوبيات، ساهمت العالمات ونساء الأسر الميسورة في الوقف الخيري، فقد أوقفت أم اللطيف بنت الناصح الحنبلي مدرسة العالمة، بالإضافة إلى مكتبة ضخمة للعلماء والطلاب في دمشق. وفي الوقت نفسه شيدت النساء الأيوبيات الرباطات للخدمة الدينية، واستقبال المسافرين، وللمتصوفة كرباط صفية القلعية، ورباط زهرة في القرن السابع الهجري.

ثالثاً: أثر أوقاف المرأة في الازدهار الاجتماعي والثقافي والاقتصادي في بلاد الشام

تميزت الأوقاف النسائية الأيوبية، عن المراحل الاسلامية السابقة، في مشاركة المرأة بكل كبيرة وصغيرة، وتوسعت الأوقاف بكل الاتجاهات، فلم تقتصر أوقافها على بلد بعينه، على الرغم من الخصوصية التي تمتعت بها مركز السلطنة “دمشق”. وفي نفس الوقت، لم تعد الأوقاف قاصرة على الأميرات الخاتونيات، وإنما تعدتها إلى الطبقات العامة الميسورة، والعالمات الجليلات. إذن، تركت مؤسسة الوقف النسائية آثاراً اجتماعيه واقتصادية وعلمية في حياة المجتمع والدولة، تمثلت فيما يأتي:

1 – حمل الوقف كمؤسسةٍ مجتمعية –تنموية خيرية، مضامين تعبر عن الهوية الحضارية للإسلام، فكان التعليم في المساجد والتكايا والزوايا والمدارس. ولقد ساعد الوعي السياسي والديني للنساء الخيرات على اكتساب الوقف بُعداً حضارياً ترك آثاراً عميقة داخل المجتمع الإسلامي، إذ كان يلحق في كل مؤسسة وقفية مسجدٍ يؤدي فيه الطلاب والمدرسون صلاتهم، وذلك إشارة إلى مدى التطور التنظيمي الحاصل، وبدوره احتفظت المساجد الكبرى بمكانتها وشهرتها العلمية حتى أواخر العهد العثماني، مثل: جامع بني أمية ـــ المسجد الأقصى.

2 – أدت أوقاف المرأة الأيوبية دوراً بارزاً في الحركة الثقافية والدينية؛ فالأيوبيون من خلال هذا النظام أثبتوا قدرتهم على تطوير الحياة العلمية، وكَثُرَ أهل العلم في بلاد الشام، وقدمت أوقاف المدارس والأربطة، إضافة إلى التدريس، الطعام والشرب والمنام، والعلاج. وحرص معظم أصحابها على توفيرِ أوقافٍ استثمارية، لضمان استمرارها كونها كانت مؤسسات تتمتع بالاستقلال المالي عن الدولة، وهو أمر دفع بكثير من طلاب العلم في العالم الإسلامي للوفود إلى دمشق؛ حيث الأوقاف السخية التي توفر أسباب العيش وتكفل الاشتغال بالعلم دون تعب، وكان الريع على الأوقاف شهرياً أو يومياً نقداً أو عيناً، أي حسب شروط الواقف.

3 – كان للأوقاف النسائية الأيوبية أثرها التوعوي، من خلال محاربة البدع، وتجنيب الناس الانحراف المذهبي، فساهموا بإعداد جيل حمل مهمةً جهاديةً ضد أعداء الأمة “الصليبيين”.

4 – عبَّرت الوقفيات النسائية الأيوبية عن نوع من الحراك المتواصل في المجتمع الإسلامي، وذلك في تحسين الأوضاع الاقتصادية، وتعزيز الجانب الأخلاقي في المجتمع من خلال رعاية النساء المطلقات والأرامل والأيتام والعبيد والطبقات المهمشة. وبالتالي ساعدت على تحقيق الاستقرار الاجتماعي، وتمكَّن الفقير كالغني من الحصول على حقه في المتطلبات الأساسية من خلال نظام الوقف، وهو ما عزز روح الانتماء إلى المجتمع الإسلامي، وشكلت الأوقاف النسائية الركن الأساسي للتآلف المجتمعي؛ لأنها تستند إلى مذهب واحد “السنة”، وخَرَّجت من مدارسها، قضاةً وعلماء ورجال سياسة، بإشراف كبار علماء الأمة، مثل ابن تيمية، وابن الجوزي وآخرون.

5 – لعبت الوقفيات النسائية الأيوبية دورها في بناء نهضة اقتصادية “إنمائية” على مستوى الفرد والجماعة، فكان ما تقاضاه العلماء والطلاب من رواتب أمنت لهم مستواً لائقاً من العيش. وفي ذات الوقت استفادت كل فئات المجتمع الغنية والفقيرة، فقد تمتع العتقاء بمركز مرموق، فنجد أن “بابه خاتون” جعلت وقفها على أولادها ثم على عتقائها. ومن ناحية أخرى نجد أن مصادر تمويل الوقف تركزت في الأرياف والقرى التي أوقفت فيها البساتين ومعاصر الزيت والطواحين. وهكذا، فإن أوقاف النساء ساهمت في إحياء القرى والمناطق الطرفية، وتحقيق انتعاشة اقتصادية فيها، وشجع توفير العمل على استقرار الفلاحين، فكان لذلك أثره الاقتصادي في التنمية .

ويمكننا القول: إن وقف المرأة الأيوبية يختلف عن وقفيات العصور السالفة التي كانت متركزة في المدن، والتي أفادت سكان المدن فقط، وخلقت أزمة ديموغرافية “سكانية” سببتها هجرة الفلاحين من قراهم، طلباً للرزق في المدينة، وهو ما كانت خاتمته في العهد الأيوبي.

6 – ألغت أوقاف النساء في العصر الأيوبي الافتراض الذي أشاعته الأدبيات الاستشراقية عن حالة الانكفاء الذي عاشته المرأة المسلمة في العصور الإسلامية، فالإتيان على دور المرأة الأيوبية في الوقف يُبدد تلك الادعاءات والنظرة النمطية، ويؤكد فرادة التجربة الخاصة بالمرأة المسلمة في إثراء دورة الحضارة الإنسانية.

رابعاً: كيف تلعب المرأة المسلمة اليوم الدور الذي لعبته في العهد الأيوبي؟

ما يمكن أن نراه في المجتمعات العربية والإسلامية الراهنة، رغم كل ما يقال عن حقوق المرأة ودورها، وما يجري في أروقة البرلمانات والتشريعات الدستورية من مواد وتصنيفات، وما يحاول الدستوريون إظهاره من حقوق للمرأة، ولكننا نرى ضعف المشاركة النسائية في الوقف وغيره. ووفق تقارير كمية، كان منها التقرير الذي أعدته مؤسسة طومسون رويترز الحقوقية في نوفمبر 2013 عن مكانة المرأة المسلمة، وقياس مدى مشاركتها السياسية والاقتصادية والفكرية، فقد وصلت لما يمكن أن نسميه “النتائج الكارثية”، فهو أماط اللثام عن الوضعية الإقصائية للمرأة داخل مجتمعاتنا.

وبالرغم من أن محاولات التغيير بعد عام ٢٠١١، فتحت الآمال لعودة مكانة المرأة من جديد، ولكنها لم تصل إلى المأمول، وساد في جميع بلدان الثورات نوع من الخطاب الأيديولوجي النمطي للمرأة ومشاركتها، مستمداً حججه من بعض القراءات السطحية للنصوص الشرعية، كما في قوله تعالى (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) الأحزاب 33. ودون قراءة تحليلية عميقة، فهذه الآية مثلاً؛ نزلت بحق زوجات النبي ، ليضع بينهنَّ، وبين الناس حجاباً، لمكانتهنَّ الرفيعة التي تفضلهنَّ عن نساء العالمين، وليس أكثر أو أدنى من ذلك.

خاتمة

كان للحركة الوقفية للمرأة في العهد الأيوبي دور كبير في تحقيق الازدهار المجتمعي، والذي بلغ مبلغه مع زوجات السلاطين العثمانيين. وقد تحولت دمشق في العهد الأيوبي إلى مركزٍ للعالم الإسلامي، يأمها العلماء والطلبة والفقراء، والأغنياء والتجار والصناع، والمعماريين والبنائين من كل الأصقاع. ومهما كانت دوافع تلك الطفرة في عقلية النخبة السياسية السلطانية، إلا أنه، في الحقيقة كان للوقف تأثيرات دينامية في بنية المجتمع والدولة، وفي دعم الحركة الجهادية، وتمتين الجبهة الإسلامية في قتال الصليبيين.

وخلاصة القول؛ ساهم الوقف النسائي الأيوبي في بلاد الشام في عملية ربط الأجيال بتراث إسلامي عظيم من حيث بُعده الاجتماعي والفني المعماري، فلا بد من العمل اليوم على إحياء مؤسسة الأوقاف، وتفعيل دور المرأة المسلمة فيها، وإخراج المرأة إلى الفضاء المعرفي لتقوم بدورها، وتكون فاعلة كما أراداها الله أن تكون، لا كما نريدها نحن أن تكون. ولتكن المرأة الأيوبية بأقل تقدير النموذج الذي يمكن أن يحتذى في التعامل مع المرأة المسلمة في القرن الحادي والعشرين.

 


[1] الوقف: بمعناه العام هو وضع أصول منتجة في معزل عن التصرف الشخصي لأهداف خيرية شخصية أو عامة، ولقد بدأ الوقف مع إقامة دولة الرسول في المدينة المنورة، وذلك ببناء مسجد قباء ليكون أول وقف في الإسلام.

مراجع:

1. ابن جبير، رحلة ابن جبير، د. م، (بيروت، دار صادر، ط1 2005).

2. ابن شداد، النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية، تـ: جمال الدين الشيال، (القاهرة، مكتبة الخانجي،1994).

3. ابن طولون، القلائد الجوهرية في تاريخ الصالحية، تحقيق محمد دهمان، (دمشق، مجمع اللغة العربية، ط2 1980)، ج1.

4. أحمد رضا، مدارس الخاتونيات والأميرات الأيوبيات في بلاد الشام في العصر الأيوبي، (الموصل، كلية التربية الإسلامية، 2008)، العدد 4، مج7.

5. عبد القادر الدمشقي، الدارس في تاريخ المدارس، تحـقيق عمار نهار، (دمشق: الهيئة العامة السورية للكتاب، 2014).

6. عودة الشرعة، أوقاف المرأة في دمشق في العهد الأيوبي، ط1 2011.