الحكاية – كما رواها خطيب المسجد بصوت متهدج حزين – أن امرأة حصلت على أعلى الدرجات العلمية: الدكتوراة والماجستير، هكذا قال الخطيب (لاحظ دلالة هذا الترتيب على ثقافته) وتبوأت أعلى المناصب العلمية، لكنها نسيت نفسها فلم تتزوج وحينما بلغت الخمسين دون زواج كابدت الندم الشديد، وقالت إن امرأة ريفية جاهلة، في حجرها أولاد تربيهم، كانت أنفع منها للمجتمع.
ثم راح الخطيب يؤكد أن هذه المرأة حينما نسيت دورها الطبيعي في تربية الأبناء وزاحمت الرجال ارتكبت المعصية الكبرى ونسيت الله تعالى فأنساها نفسها، ثم تلا قوله تعالى “نسوا الله فأنساهم أنفسهم” صدق الله العظيم.
بلطجة الميكروفون
هذا الخطيب -وهو بالمناسبة فتى في العشرينيات يرتدى جلبابًا ناصع البياض وله لحية سوداء كثة جدًّا تلقي الرهبة في القلوب- يمسك بالميكروفون ويخترق صوته جدران البيوت والقلوب.. ومفهوم بالبديهة أن ما يقوله خطيب الجمعة يتحول إلى خلفية دينية ثقافية في وجدان المستمع العادي الذي لا يملك عقلاً نقديًّا قادرًا على مراجعة وفرز ما يقوله الخطيب.. لقد تهيأ هذا المستمع العادي لصلاة الجمعة باعتبارها طقسًا دينيًّا.. ومنذ مساء الخميس وهو يعرف في لاوعيه أن غدًا صلاة الجمعة ويرتب مواعيده وجدوله اليومي على أساس هذه الصلاة.. وحينما يجلس في الصف -مستمعًا أحيانًا وشاردًا غالبًا- فإن ما يسمعه -وما لا يسمعه- يتحول إلى خلفية ثقافية ودينية دون أن يفطن لذلك أو يتعمده.. والرسالة التي وصلت عقله الباطن ملفقة للأسف: عمل المرأة يتعارض مع الدين (تصور أن هذا الأمر قد تم طرحه منذ حوالي قرن من الزمان تقريبًا، وما زال البعض يتحدث فيه ليس باعتباره اختيارًا شخصيًّا أو ظاهرة اجتماعية، ولكن باعتباره شأنًا دينيًّا).
الرسالة الأخرى تضع قيمة العلم والعمل في مقابل قيمة الدين.. فهذه المرأة بمقدار ارتقائها سلم الدرجات العلمية بمقدار هبوطها درج الدين.. الرسالة الثالثة لا تقل خطورة وهي أن امرأة ريفية جاهلة تمنح المجتمع ذكورًا بيولوجية من عينة حسنين ومحمدين أنفع للمجتمع من طبيبة أمراض نساء قامت بتوليد وعلاج عشرات الآلاف من النساء..
الكيت كات
وأخيرًا.. وفي الوقت نفسه يضع حصولها على الدرجات العلمية مقابل الإنجاب وتربية الأبناء كطرفي نقيض وهو ما يكذبه الواقع الملموس، فالأغلبية الساحقة من الحاصلات على الدكتوراة تزوجن وأنجبن ومارسن الأمومة.
والأخطر بما لا يقاس هو ربط حكاية تلك المرأة التعيسة -بعد فضحها في مدينتنا الصغيرة على الهواء في مشهد يذكرنا بما فعله محمود عبد العزيز الذي مثّل دور الشيخ الضرير في فيلم (كيت كات)- بتلك بالآية الكريمة “نسوا الله فأنساهم أنفسهم…”.
للأسف يسيء أمثال هذا الخطيب الشاب للإسلام بدلاً من الدعوة إليه.. ويخلطون بين أفكارهم الشخصية التي هي نتاج خبرتهم الحياتية وخلفيتهم الثقافية وبين ما هو مقدس.. والأغلب أن آراءهم ستتغير فيما بعد كما حدث لنا كلنا.. ولكنه لن يستطيع وقتها الوصول إلى وجدان كل المستمعين الذين حفر فيهم -دون أن يقصد- المعاني الخاطئة التي تكرس الصدام بين العلم والدين.
الدين يجب أن يكون بمثابة ضمير يحتكم إليه المجتمع لضبط حركته وليس إلى سوط يجلدنا به ممن تصادف أن أمسكوا بالسوط/ الصوت/ الميكروفون. فإذا كان من غير المقبول المساس بقدسية النص القرآني ولا بالأحاديث الصحيحة وما هو معلوم من الدين بالضرورة وما اجتمعت عليه الأمة، ففي المقابل يجب ألا يفرض علينا أحد وجهة نظرة الخاصة وتجربته في الحياة التي تحبذ أو تجرم حركة الحياة العادية التي سكت عنها الوحي رحمة بالأمة لا عن جهل وإهمال. ويناقش القضايا العلمية والاجتماعية وهو غير مؤهل لها.. ويحول قضية امرأة تعيسة الحظ لم يكتب لها الزواج وممارسة الأمومة إلى خاطئة نست الله فأنساها نفسها.
أين الأزهر؟
نحن بحاجة إلى استرجاع الأزهر ليتحول إلى ضمير يضبط إيقاع الحياة والمجتمع.. والأهم أن تطرح كل طائفة لها مرجعية دينية نفسها للناخبين باعتبارها تجربة بشرية قابلة للصواب والخطأ وليس باعتبارها المتحدث الرسمي باسم الرب ولا المنفذ لإرادته.
أذكر أن خطيبًا للجمعة في أحد المساجد لم يكتفِ بفرض النقاب وإنما طلب من الأخوات المنتقبات عدم فتنة شباب المسلمين بعيونهن! وأكد ضرورة ارتداء (البيشة)، واستفزني كلامه فذهبت إليه بعد الصلاة قائلاً إن من حقه أن يدعو لمذهبه الفقهي كما يشاء، ولكن بشرط أن يعرضه باعتباره أحد المذاهب.. واستشهدت بكتاب الشيخ الغزالي “قضايا المرأة بين التقاليد الراكدة والوافدة” الذي قال فيه إن فرض النقاب على مسلمات أوروبا سيعد بمثابة قضاء مبرم على الدعوة الإسلامية هناك؛ لأن الأوروبيات يفهمن ثياب الفضيلة في الحجاب التي تشبه ملابس الراهبات أما أن تتحول المرأة لشبح أسود معزول عن العالم فذلك -كما قال الشيخ الغزالي- لا أصل له، والنقاب في نهاية الأمر رأي لم يجنح إليه كثرة المفسرين والمحدثين والفقهاء.. بالطبع امتعض الرجل لمجرد ذكر الشيخ الغزالي الذي تحول للأسف إلى ساحة رجم بالنسبة للمتشددين من بعض التيارات السلفية..
والخلاصة أن سلاح الدين خطير وكم من مظالم ارتكبت باسمه، وكم من دماء أريقت بسببه؛ ولهذا يجب أن يكون المؤمنون به هم أحرص الناس على نزعه من كل من لا يحسنون استخدامه.. بل من كل من لا يحق لهم امتلاكه أصلاً..