ربما يظن بعض المطالعين لكتاب الموافقات للشاطبي، أنه لا يرى حجية السنة في الاستقلال بالتشريع، ذلك أن له ألفاظا ربما يوهم ظاهرها هذا المأخذ إذا اقتطعت وحدها من جملة حديثه عن رتبة السنة مع القرآن.
لكن الحق أن الشاطبي لا يذهب هذا المذهب، الذي وَصَف أصحابَه بأنهم ( لا خلاق لهم، منخلعون عن الجماعة)[1].
غير أنه كذلك لا يذهب المذهب المقابل الذي يرى أصحابه أن السنة استقلت بتشريعٍ لم يأت به القرآن، وليس معنى ذلك أنه يكتفي بالقرآن في التشريع.
حقيقة مذهب الشاطبي تجاه السنة
ومفاد نظرية الشاطبي في علاقة السنة بالقرآن، أن السنة راجعة في معناها إلى الكتاب؛ فهي تفصيل مجمله، وبيان مشكله، وبسط مختصره.
فليس في السنة أمر إلا والقرآن قد دل على معناه دلالة إجمالية أو تفصيلية. وهذا موقف من السنة استقرائي لا مبدئي!
فالسنة ما هي – في مساحة التشريع- إلا بيان للقرآن، والقرآن أتى على كل شيء بالتبيان، فما من شيء أتت به السنة في هذه المساحة إلا وقد دل عليه القرآن إجمالا، وأما السنة فهي تأتي على هذا الإجمال بالبيان والتفصيل، ويستشهد على ذلك بمثل قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] وقوله تعالى : {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ } [النحل: 89]
طرق اشتمال القرآن على السنة
غير أن هذا البيان من القرآن للسنة في نظره لا يرجع إلى معنى واحد، بل إلى عدة معان، هي:
أولا : أن القرآن هو الذي أمر باتباع السنة[2]، قال الله عز وجل: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} [الحشر: 7] فصح أنه ما من شيء أتت به السنة إلا ويصح أن يُنسب إلى القرآن؛ لأن القرآن هو الذي أمر باتباعه، ويستدل على ذلك بحديث عبد الله بن مسعود قال: “لعن الله الواشمات، والمستوشمات، والمتنمصات والمتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله فبلغ ذلك امرأة من بني أسد، يقال لها أم يعقوب فجاءت، فقالت: إنه بلغني أنك لعنت كيت وكيت فقال: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله ﷺ، ومن هو في كتاب الله فقالت: لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول فقال: لئن كنت قرأتيه، لقد وجدتيه أما قرأت (وما آتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا) قالت: بلى قال: فإنه قد نهى عنه”[3]
القرآن يُجمل والسنة تُفصِّل
ثانيا : أن القرآن أتى بالتشريعات إجمالا، وتولت السنة تفصيل هذه المجملات[4]، قال تعالى : {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} [النحل: 44] كبيان السنة للصلوات على اختلافها في مواقيتها وركوعها وسجودها وسائر أحكامها، وبيانها للزكاة في مقاديرها وأوقاتها وأنصبة الأموال المزكاة، وتعيين ما يزكى مما لا يزكى، وبيان أحكام الصوم وما فيه مما لم يقع النص عليه في الكتاب، وكذلك الطهارة الحدثية والخبثية، والحج، والذبائح والصيد وما يؤكل مما لا يؤكل، والأنكحة وما يتعلق بها من الطلاق والرجعة والظهار واللعان، والبيوع وأحكامها، والجنايات من القصاص وغيره.
ومن هنا كانت السنة في هذه النظرية قاضية على القرآن، أي أنها تفسره وتبينه، وذكر أن هذا المعنى أشهر عند العلماء.
ثالثا: أن القرآن أتى بالقواعد، وأتت السنة بالتفريعات عليها[5]، فمثلا أتى القرآن بقاعدة رفع الحرج، وفرَّعت السنة عليها : التيمم للمريض، وصلاته حسب استطاعته في العبادات، وفرَّعت عليها في المعاملات : إباحة يسير الغرر.
السنة اجتهاد في ضوء القرآن
رابعا: أن السنة حينما تشرع شيئا ليس منصوصا عليه في القرآن، يكون عملها إما اجتهادا في ضوء القرآن، وإما قياسا على المذكور فيه[6]، شأن المجتهد مع النصوص، فصح أن يُنسب ذلك إلى القرآن، كنسبة الفقه إلى الشريعة، فحينما تنص السنة على تحريم أكل كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، وتنهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية، فذلك اجتهاد من النبي ﷺ بأي الأصلين تُلحق هذه المذكورات، بالطيبات التي أحلّها القرآن ، أم بالخبائث التي حرَمها؟ وهذا هو الاجتهاد؛ ولذلك حينما يذكر النبي ﷺ تحريمها، يعلل ذلك بأنها رجس، أي من جنس الخبائث. فعن أنس -رضي الله عنه- أن النبي -ﷺ- أمر مناديا فنادى في الناس: “إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الأهلية. زاد مسلم: “فإنها رجس أو نجس”.[7]
و حينما تنهى السنة عن نبيذ الدباء، والمزفت، والنقير، فإنما ذلك عملية قياس من النبي ﷺ لهذه الأمور على الخمر المحرم في القرآن، كما يفعل المجتهد مع النصوص.
وحينما تحرم السنة الجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها، فهو قياس على ما صرح به القرآن من الجمع بين المرأة وأختها بجامع أن الإسلام يتوخى بقاء ما بين كل اثنتين من هؤلاء من أواصر ووشائج.
وحينما تبين السنة أن ماء البحر طهور، فهو قياس له على ما ذُكر في القرآن من ماء المطر.
السنة تؤكد لا تؤسس
خامسا : أنه ما من شيء تولت السنة بيانه بالتشريع إلا وتولّى القرآن بيانه بذاته إما نصًّا وإمَّا إشارة[8]، فمثلا، في حديث ابن عمر في تطليقه زوجه وهي حائض؛ فقال عليه الصلاة والسلام لعمر: “مره فليراجعها، ثم ليتركها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس؛ فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء” فهذا موجود في القرآن بنصه، في قوله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق: 1] .
وفي حديث جابر عن النبي -ﷺ- حين قدم مكة طاف بالبيت سبعا؛ فقرأ: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} [البقرة: 125] ؛ فصلى خلف المقام، ثم أتى الحجر فاستلمه، ثم قال: “نبدأ بما بدأ الله به”، وقرأ: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} 1 [البقرة: 158] .
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ﷺ: “قال الله: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر فاقرءوا إن شئتم [9]: { فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ } [السجدة: 17]
غير أن هذا التطابق بين القرآن والسنة فيما يتصل بالتشريع أو غيره لم يُلْفَ مطَّرِدًا، وقد أقرَّ الشاطبي نفسه بذلك، فقد قال تعليقا على هذا المأخذ : “ولكن القرآن لا يفي بهذا المقصود على النص والإشارة العربية التي تستعملها العرب، أو نحوها … ” [10]
فهذا هو البيان النبوي في أبواب الصلاة، والحج، والزكاة، والحيض، والنفاس، واللقطة، والقراض، والمساقاة، والديات، والقسامات، أين نجد هذا التطابق القرآني مع البيان النبوي فيها وفي نحوها!
بل قد ذكر أن المحاولات في هذا المضمار قد باءت بالفشل، فقال : ولقد رام بعض الناس فتح هذا الباب الذي شرع في التنبيه عليه؛ فلم يوف به إلا على التكلف المذكور، والرجوع إلى المآخذ الأُوَلِ في مواضع كثيرة لم يتأت له فيها نص ولا إشارة إلى خصوصات ما ورد في السنة؛ فكان ذلك نازلا بقصده الذي قصد. وهذا الرجل المشار إليه لم ينصب نفسه في هذا المقام إلا لاستخراج معاني الأحاديث التي خرج مسلم بن الحجاج في كتابه “المسند الصحيح”، دون ما سواها مما نقله الأئمة سواه، وهو من غرائب المعاني المصنفة في علوم القرآن والحديث، فإذا كان أعجزه ذلك في صحيح مسلم فقط، الذي لا تبلغ أحاديثه بدون المكرر أربعة آلاف حديث، فكيف بالسنة كلها!
وعلى هذا، فالشاطبي لم يدعُ إلى الاكتفاء بالقرآن، ولم يرُدَّ السنة المستقلة بالتشريع.[11]
[1] – الموافقات (4/ 325)، تحقيق مشهور.
[2] – الموافقات (4/340)
[3] – اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان (3/ 44)
[4] – الموافقات (4/ 343)، تحقيق مشهور.
[5] – الموافقات (4/ 346)، تحقيق مشهور.
[6] – الموافقات (4/ 352)، تحقيق مشهور.
[7] – متفق عليه، جامع الأصول (11/ 413)
[8] – الموافقات (4/ 393)، تحقيق مشهور.
[9] – متفق عليه، اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان (3/ 286)
[10] – الموافقات (4/401) تحقيق مشهور.
[11] – انظر”حجية السنة” عبد العني عبد الخالق، ص535 وما بعدها.