عند القيام بالتنقل من فصل دراسي إلى فصل دراسي آخر في مدرسة “تيبا خاره” على مشارف لاهور ثاني أكبر مدينة في باكستان تلاحظ تناقص أعداد الطلاب تدريجيا.
يبدو واضحا للعيان أن عدد التلاميذ في الفصول يتناقص باطراد، حيث تسود الفوضى في الفصل الدراسي الأول المزدحم بالأطفال والمتراوحة أعمارهم بين خمس وست سنوات في المرحلة الأولى من الدراسة، وبالمرور عبر الغرف القليلة المجاورة للمراحل العمرية المتقدمة حتى الوصول لفئة 10 -11 سنة ، تجد قلة من التلاميذ يدرسون بصمت.
هذا النمط من المواظبة على استكمال الدراسة وانخفاض معدله كلما تقدم العمر ، لا تنفرد به باكستان فقط.
انخفض المعدل العالمي للأطفال الذين لا يلتحقون بالمدارس الابتدائية من 28 في المائة في 1970 إلى 9 في المائة في 2016. وانخفضت نسبة الأطفال غير الملتحقين بالمدارس بأقل من نقطة مئوية واحدة منذ 2007، ويغيب نحو 63 مليون طفل إلى المدرسة الابتدائية ؛ وهناك 200 مليون طفل لا يستكملون تعليمهم الثانوي.
وبالرغم من تساوي معدلات تعليم الأطفال في البلدان الغنية والفقيرة، إلا أن معظم الأطفال في البلدان الفقيرة لا يستكملون مراحلهم التعليمية.
ويلتحق بالمدارس الثانوية حتى سن السادسة عشرة 96 في المائة من الأطفال من الدول المنضوية تحت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية – ومعظمها من البلدان الغنية – بينما تصل النسبة في الدول الفقيرة إلى 35 في المائة.
وسجلت المدراس في جنوب الصحراء الكبرى وشمال إفريقيا والشرق الأوسط أعلى معدلات التسرب من المدارس، وخاصة فتيات الأسر الريفية الفقيرة . ويمكن توقع إنهاء واحدة من كل 20 فتاة في إفريقيا المرحلة الثانوية.
ومن حيث المبدأ يلتزم العالم بالتأكد من أن كل طفل يلتحق بالمدرسة حتى سن السادسة عشرة. وفي عام 2015 تعهد أعضاء الأمم المتحدة بحلول 2030 ” استكمال جميع الفتيات والفتيان التعليم الابتدائي والثانوي المجاني والجيد”.
وأوصت لجنة للأعمال الخيرية في 2016 – تضم عدد من المشاهير من مختلف دول العالم – بزيادة الإنفاق السنوي على التعليم في البلدان النامية من 1.2 تيرليون في 2016 دولار إلى 3 تيرليون في 2030 ، وذلك ضمن خطة جزئية تضمن استكمال كل طفل للمراحل الدراسية. تخيلوا أن يحدث ذلك ؟
ربما يفترض المتخصصون في التربية والتعليم أن هذا الإجراء سيقود إلى اكتشاف ملايين العقول ، ولكن البيانات الواردة من مدارس البلدان الفقيرة توحي بخلاف ذلك، فكثير من التعليم المقدم للأطفال غير مفيد.
يقول الخبير الإقتصادي بجامعة هارفارد لانيت بريتتشيت “إذا أردت العثور على أطفال غير متعلمين في عالم اليوم ستجدهم في المدرسة”.
ووفقا لدراسة استقصائية لثلاث دول في شرق إفريقيا (كينيا وتنزانيا وأوغندا) نشرت في 2014،بينت مدى فشل التجربة، وأوضحت الدراسة أن ثلاثة أرباع التلاميذ في السنة الثالثة من المرحلة الابتدائية لم يتمكنوا من قراءة جملة مثل: ” صغير الكلب اسمه جرو”.
وتتشابه نتائج مدارس الهند الريفية حيث لم يتمكن طلاب المرحلة الابتدائية من إجراء العملية الحسابية ( 47 – 17 ) بشكل صحيح ، أو إجراء عمليات حسابية أخرى.
وتشير البحوث التي أجراها مركز التنمية العالمية – مستندة إلى بيانات نصف البلدان النامية – إلى أن أقل من 50 في المائة من الفتيات اللاتي تركن المدرسة بعد سن الحادية عشرة باستطاعتهن قراءة “جملة كاملة”.
وقدرت منظمة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة ، أن 6 من كل 10 أطفال في العالم (من مجموع 600 مليون طفل ) لا يستوفون الحد الأدنى من الكفاءة في القراءة والرياضيات، والغالبية العظمى من هؤلاء الأطفال ملتحقون بالمدارس.
حتى لو وافق الأطفال على الحضور في المدارس، فإنه من المحتمل أن لا يحدث لهم أي تغيير على الصعيد المعرفي.
ووفقا للبيانات المستمدة من البنك الدولي تتراوح معدلات غياب المدرسين في البلدان النامية بين 11 في المائة و 30 في المائة. (في أوغندا ، يبلغ المعدل 60 في المائة).
نقطة أخرى تخص المعلمين أنهم لا يثبتون جدارتهم، ففي جنوب افريقيا ، على سبيل المثال ، هناك ما يقرب من 80 في المائة من معلمي مادة الرياضيات في المدارس الابتدائية لديهم معرفة أقل من المستوى المتوقع بالنسبة لطالب في الصف السادس.
وكثيرا ما يركز المعلم المتمكن اهتمامه على التلميذ الذكي ، مما يؤدي إلى تخلف مستوى بقية الطلاب.
وقد خلصت دراسة نشرت في 2016 إلى أن معلومات تلاميذ الصف السادس في الجزء الفقير من العاصمة الهندية دلهي هي أقل بدرجتين ونصف مما يتوقعه منهج الرياضيات منهم. وتزداد هذه الفجوة إلى 4 درجات ونصف بالنسبة للتلاميذ في الصف التاسع.
الفقر يجعل تعليم الأطفال أكثر صعوبة. الأطفال الذين يصلون إلى المدارس في حالة من التعب والجوع يقاومون ذلك من أجل مواصلة الاهتمام. ولا يمكن للمدرسين الذين لا يملكون كتبا أو معدات أو كهرباء أن يركزوا على تدريس الحساب واللغة. ولكن لبُّ هذه المشاكل في الفصول الدراسية يعود لأسباب سياسية ، وليست مالية. غالبا يتم التعيين على أساس المحسوبية لا على أساس الجدارة. وتحمي نقابات المعلمين “القوية” السيئين منهم من الإقالة، كما يفضل الساسة الاحتفاء بافتتاح مدارس جديدة لتحسين صورة ما يحدث داخلها.
انفاق المزيد من المال على نظم التعليم الحالية من المحتمل أن يؤدي إلى تحسين ما يحدث في الفصول الدراسية بشكل بسيط. وتبين دراسة استعرضت 30 تجربة تعليمية نشرت في 2013 في مجلة العلوم من قبل مايكل كريمر ، وكونر وراشيل غلينيستر إلى أن تكرار نفس السياسات لن يكون لها تأثير يذكر أو أي تأثير علي نوعية التعليم. وشملت هذه الأنشطة تدخلات مثل إضافة مزيد من المدرسين لخفض أحجام الفصول الدراسية ، أو زيادة ودعم الكتب المدرسية.
وعلى النقيض من ذلك ، فإن التغييرات التي لا تكلف كثيرا ولكن يصعب تنفيذها ، مثل تغيير المناهج التربوية أو استحداث عقود قصيرة الأجل للمدرسين ، ترتبط بدرجات اختبار أعلى للتلاميذ.
بعض الفوائد الاقتصادية ترتبط بالتحاق الأطفال بالمدرسة واستكمال مراحلها، ويرجع ذلك جزئيا إلى أن الذين لديهم تعليما إضافيا يملكون فرصا أفضل للحصول علي وظائف غير زراعية والانتقال للعيش في المدن.
وقد يشير ذلك إلى أن الشباب يتعلمون في الواقع شيئا مفيدا في المدرسة لا يلتقطه الباحثون. وفي الوقت ذاته أصحاب المتاجر يفضلون العمال الذين مكثوا في المدرسة لمدة خمس سنوات على الأقل.
والالتحاق بالمدارس له فوائد تتعلق بالصحة والخصوبة حتى إذا كان التعليم المقدم سيئا..
في نيجيريا على سبيل المثال لا يوجد سوى 8 في المائة من النساء اللاتي تركن التعليم بعد سن الحادية عشرة وبإمكانهن قراءة جملة كاملة.
وتشير الدراسات إلى أن السنة الدراسية الإضافية ترتبط بالنساء اللاتي لديهن عدد أقل من الأطفال وقد تحققت نتائج مماثلة في إندونيسيا وإثيوبيا وأوغندا وكينيا . كما أن الأطفال الذين يولدون لهؤلاء النسوة أقل عرضة لسوء التغذية والموت المبكر.
هناك عدة أسباب محتملة، منها أن وجود الفتيات في المدرسة سيقلل من فرصة انجابهن أطفالا، وثمة إمكانية أخرى تتمثل في أن التعليم المدرسي يزيد من تكلفة وقوع الحمل مما يقلل من نسبة التورط فيه.
في عدد من البلاد يشكل الحمل سببا للطرد من الدراسة وهو ما يعني أن الفتيات لم يعد بإمكانهن التعلم ، أو على الأقل اكتساب ميزة سوق العمل المتمثلة في الحصول علي تعليم إضافي لسنوات قليلة.
ويعمل الالتحاق بالمدرسة على تحسين الصورة الذاتية للفتاة، ومجرد ارتداء الزي المدرسي يمكن أن يزيد من اعتداد الفتيات بأنفسهن ويمنحهن الثقة.
سيرسل الآباء أطفالهم إلى المدرسة إذا شعروا انها ستفتح لهم أبوب الفرص في الحياة، لكن إذا تمكن هؤلاء الأطفال كسب بعض المال – خاصة للأسر التي تعمل في الحقول أو في الأسواق – أو شعر الآباء بخطر يهدد سلامة أطفالهم في المدرسة فسيمنعون الالتحاق بها.
خلاصة القول أن الجهود الرامية إلى إصلاح المدارس وتحسين الظروف التعليمية ستؤدي إلى زيادة عدد الأطفال الملتحقين بالمدارس واستكمال مراحلها. ولكن حتى بدون هذه الإصلاحات ، فإن نتائج البحث واضحة: إذا ذهب كل طفل إلى المدرسة ، مهما كانت الظروف سيئة ، فإن الفائدة حتمية. حتى في ظل ظروف دراسية سيئة تمنع من أداء المدرسة دورها بشكل كامل اتضح أنها أفضل من عدم وجودها على الإطلاق.