منذ أن عرفت مجتمعاتنا العربية والإسلامية هذا المصطلح يحاول دعاتها إلصاقها بالعلم وإلباسها لباس الرقي والتحضر، ليتسنى لهم ترويج بضاعتهم الفاسدة ومشروعهم العلماني الخبيث، ويُسَهّل عليهم اختراق عقول من يمضون وراء كل ناعق، مما دفع الأديب زكى نجيب محمود منذ سنوات إلى كتابة مقال في جريدة الأهرام تحت عنوان “عين – فتحه – عا” أي عَلمانية بفتح العين وليس بكسرها، ليرفع هذا اللبس ويقطع نسبتها إلى العلم، فربط العَلمانية به نوع من الغش والتدليس الفكري وتسمية الأشياء بغير مسمياتها.
والعَلمانية في جذورها الأوربية من حيث اللغة والاشتقاق والمعنى لا علاقة لها بالعِلم من قريب أو بعيد، فهي في اللغة الإنجليزية (Secularism) أي اللادينية أو الدنيوية، وأما العِلم في كل من الإنجليزية والفرنسية فهو (Science)، والمذهب العلمي يطلق عليه (Scientism).
ومعنى العلمانية أي اللادينية أو الدنيوية، فتجده مقرراً هكذا بوضوح في دوائر المعارف الغربية، فعلى سبيل المثال جاء في دائرة المعارف البريطانية (9/19) تحت مادة (Secularism):”هي حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس وتوجيههم من الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بهذه الدنيا وحدها..وظل هذا الاتجاه يتطور باستمرار خلال التاريخ الحديث كله، باعتبارها حركة مضادة للدين ومضادة للمسيحية.
وفي معجم أكسفورد جاء في شرحه لكلمة (Secular): أ- دنيوي أو مادي، ليس دينياً ولا روحياً: مثل التربية اللادينية في الفن أو الموسيقى اللادينية، السلطة اللادينية، الحكومة المناقضة للكنيسة.
ب- الرأي الذي يقول إنه لا ينبغي أن يكون الدين أساساً للأخلاق والتربية.
وفي معجم ويبستر جاء تعريفها:”هي رؤية للحياة، أو في أي أمر معين يعتمد أساساً على أنه يجب استبعاد الدين وكل الاعتبارات الدينية وتجاهلها، ومن ثم فهي نظام أخلاقي يعتمد على قانون يقول: بأن المستويات الأخلاقية والسلوكيات الاجتماعية يجب أن تحدد من خلال الرجوع إلى الحياة المعيشية والرفاهية الاجتماعية دونما الرجوع إلى الدين.”
وفي معاجمنا العربية كذلك نجد أن مصطلح العَلمانية ليس له علاقة بالعِلم من حيث اللغة أو المعنى، فعلى سبيل المثال أدرج مجمع اللغة العربية في المعجم الوسيط معنى العلمانية – من باب المعاصرة وإدراج معاني بعض المصطلحات المستخدمة التي شاعت في المجتمع العربي – فكان تعريفه لها:” العَلمانية مشتقة من العَلْم بمعنى العَالم أو الدنيا، والعَلماني هو خلاف الديني أو الكهنوتي.
ويقسم بعض الباحثين اتجاه الدول والأفراد أصحاب الاتجاهات العلمانية من حيث موقفها وحدود التعامل مع التعاليم الدينية إلى قسمين: قسم يسمح به وفق المفهوم الضيق للدين، كالمجتمعات الديمقراطية الليبرالية التي تسمي منهجها بـ(العلمانية المعتدلة – Non Religious)، أي أنها مجتمعات لا دينية ولكنها غير معادية للدين، وقسم يسمى بـ(العلمانية المتطرفة Anti Religious )، أي المضادة للدين والمعادية له.
وبدهي أنه بالنسبة للإسلام لا فرق بين المسميين، فكل ما ليس دينياً من المبادئ والقيم والتطبيقات فهو في حقيقته مضاد للدين، فالإسلام واللادينية نقيضان لا يجتمعان ولا واسطة بينهما، كما أن العلمانية بمفهومها الشامل لا تقف عند مجرد الفصل بين الدين والحياة، بل لها موقف سلبي من الدين من جهة، ومن جهة أخرى لها مفهوم فلسفي متجذر يتعلق باستقلال العقل في قدرته عن الوحي وكل ما هو ديني.
وهذا المفهوم الفلسفي له أسسه القديمة منذ عهود الفلاسفة الرومانيين واليونانيين، فالفيلسوف اليوناني إبيقور (341-270 ق.م) الذي ينسب إليه أصول العلمانية كان يرى أن الغاية من دراسة الطبيعة هي العيش بأمان تجاه الآخرين والأشياء، بيد أنّ هذه الغاية لا يتوصل إِليها كما يدعي إِلاّ من لا يخاف؛ لا من الأساطير الأخروية، ولا من الظواهر الطبيعية، ولا من الموت، ولا حتى من الآلهة.
وانتقل هذا المفهوم لتلامذته وأتباعه وحملة مذهبه، فعند الإبيقوريين كل شيء في العالم يمكن توضيحه من دون حاجة إِلى إِقحام الآلهة.
وخلال عصر ما يسمى بعصر التّنوير الأوربي ظهرت أراء العديد من فلاسفة وأعلام الفكر الحر ما يرسخ لهذا الاتجاه، خاصة بعد أن أدى فساد الكنيسة وتجاوزات رهبانها وقساوستها إلى اتجاه كاد يعصف بفكرة الدين بالكلية، فحاول الفيلسوف الإنجليزي التجريبي جون لوك (1632م – 1704م) التوسط في الصراع بين البرجوازية والعلماء من ناحية وبين السلطة الكهنوتية الكنيسة والأمراء من ناحية أخرى، فانتقل بمفهوم العلمانية من الصورة النظرية إلى التطبيقات العملية في الحياة السياسة والفكرية والاجتماعية والأخلاقية، وانتهى إلى الإبقاء على فكرة الدين مع عزله عن إدارة الحياة، ووضع الإيمان والوحي والمعجزات تحت محكمة العقل الإنساني.
وهكذا فالمعنى الصحيح للعلمانية هو الفصل التام بين الدين والحياة، وعدم المبالاة بالدين أو الاعتبارات الدينية مطلقاً، ونزع القداسة عن المقررات والتعاليم والمبادئ والأخلاقيات الدينية، وإقامة الحياة على غير منهج الله، سواء على المستوى الفردي أو مستوى قوانين وإجراءات الدولة، إنه باختصار إقصاء الدين من جميع مجالات الحياة، وإحلال منظومة من القيم والأخلاق والمعايير والتصورات الإنسانية الوضعية في مقابله.