ومع أن الإسلام منهج حياة ولا يمانع بل يدعو للحداثة من منطلق دعوته للعلم والتقدم فإن الواقع العملي للمسلمين يقر بأن الجدل لا يزال يدور بين الإسلام والحداثة في واحدة من أكثر عمليات التثاقف صعوبة وممانعة فثمة دعوة إلي الخلاص من الخوف المقيم الممانع لبرودة العقل باكتشاف طرق لإمتلاك الحداثة أي الإندراج فيها مباشرة كتجربة كونية تمثل حصيلة الخبرة الإنسانية المشتركة ليست مجرد مغامرة أوروبية.
يتعين علينا الوقوف عند حدودها للفرجة عليها أو الوقوف على أطلالها حسرة على موت الله فيها . فنجد بعض السلفيين يرفضون الحداثة والبعض يدعو إلى الموقف التوفيقي الداعي إلى الجمع بين الأصالة والحداثة والذى يبقى رغم سلامته العامة موقفا سكونياً اتخذ شكلاً نمطياً وصار قالباً جاهزاً فرض نفسه على الفكر العربي لقرن ونصف من الزمان دون أن ينتج شيئا ذا أهمية رغم ما استهلكه من مشروعات فكرية قيمة وانطوى عليه من اجتهادات بحثية معتبرة. وتفترض النزعة التوفيقية كاستراتيجية نهضوية مسارات للدمج والتركيب تستلزم بدورها تحليلاً وتفكيكاً كي نحسن الإختيار بين العناصر الإيجابية في تراثنا العربي وتراث الأخر الغربي ولكن تعذر القيام بهذه المهمة لأن العرب دخلوا العصر الحديث تحت ضغط الإستعمار والصهيونية .
ولقد تشكلت الثقافة العربية في عصر التدوين العربي من القرنيين الثاني والرابع الهجريين الثامن والعاشر الميلاديين فترة الازدهار الحضاري العربي والإسلامي في مقابل عصر الظلام الأوربي في العصور الوسطى . ومع بداية القرن التاسع عشر ظهر تأخر الثقافة العربية بعد قدوم الحملة الفرنسية وما وصلت إليه من علم .
الخطاب الفكري العربي خضع لنزعة دفاعية واضحة لنحو قرنين كاملين كان خلالهما مهجوساً بالغرب وبالرغبة الدفينة في تزويق صورة تديننا الإسلامي في مواجهته حيث تعين على فقهائنا ثم مفكرينا القيام بمهمة نفي العلاقة بين تخلفنا الحضاري وبين إيماننا الإسلامي ، وهي قضية كبري استغرقت بحوثاً مطولة وأنتجت تأملات علي قدر متفاوت من الصواب.
غير أن النزعة الدفاعية هذه بفعل التطرف الديني وتصاعد الإرهاب الوحشي تحولت إلي نزعة “هروبية” من الواقع إلي النص القرآني في حضوره الرائق وشفافيته العالية فطرحت القيم الجوهرية التي ينطوي عليها الإسلام كالعدل والشوري وحرمة النفس الإنسانية والتسامح مع المِلل والأعراق الأخري باعتبارها قيمنا “نحن المعاصرين” قبل أن نستدير إلي الآخرين متسائلين : لماذا لا يفهمون ديننا؟ ألم يقرؤوا الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة ؟
للحداثة جذورا ضاربة في الحضارة العربية الكلاسيكية قيمة عقلانية مؤكدة موجودة بالنص القرآني ولكنها بالتأكيد ليست العقلانية الحديثة “المتمحورة حول المنهج التجريبي” بل عقلانية صورية كانت هي الأرِقي في زمانها.
و ظهرت نزعات عقلانية حديثة شهدتها النهضة العربية الثانية ومحاولات الإصلاح الديني قادها رواد مثل رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وغيرهم . كما أن العلمانية السياسية في التجربة الإسلامية التى تجاوبت مع النص القرآني في رفض الوصاية الروحية على الضمير الإنساني لكنها ليست بالقطع تلك العلمانية الحديثة الموشاة بالديمقراطية الليبرالية بل علمانية مستبدة صاغتها صراعات السلطة . فالحضارة الإنسانية بنية واحدة وإن تفاوتت المراكز الثقافية داخلها بين من ينتج ومن يستهلك والخبرة الإنسانية مشتركة المضمنة في تجربة الحداثة فكل ما هو إيجابي فيها يكاد يكون إنسانيا حيث تمثل الخبرة الإنسانية مستودعاً للحكمة التاريخية تتراكم داخله القيم الإيجابية التى تنال إجماعات البشر ورضاهم وهو الفهم الذى ينفي حيثيات موقفين شديدى التناقض.
الموقف الأول : الإستسلام لدونية حضارية ترى الغرب نموذجاً مثالياً ومطلقاً لابد من احتذائه للنهاية وهذا رأى التيار الحداثي العلماني الذي سطع منذ مطلع القرن العشرين داعياً إلى قبول الغرب ملهماً لممارساتنا الكلية وإلى اعتبار قيمه ومعاييره مرجعية نهائية لنا ووقوعنا في أسر الصورة المثالية للتنوير والتي تتمتع لدى هذا التيار بقدسية كبيرة تصمت عما يستنبطه تيار الوعي الغربي العقلانى الليبرالي في تجاويفه من عقد استعلائية ونزعات عنصرية من أمثلة لذلك الفيلسوف الألمانى ليبنتز صاحب مفهوم المنادة الروحية المفترض كونه مثاليا هو نفسه الذى أراد تسخير الآخرين لخدمة أوروبا الصاعدة فلم يتوقف عن الدعوة لإحتلال الأقاليم المركزية في العالم ومن ضمنها مصر وفولتير أحد أنبياء الحرية ورواد التنوير الأوربي هو نفسه صاحب كتاب ( الملك الشمس ) الذى مجد فيه الملك لويس الرابع عشر أبرز ملوك الاستبداد الأوربي في العصر الحديث .
الموقف الثاني : الإدعاء بالخصوصية الحضارية المطلقة هروباً من كل ما هو إنساني ومعاصر وهو موقف سلبي غالباً ما يصاحب الشعور بالهزيمة الحضارية وما ثيره من محاولة الاختفاء خلف قشرة من التعالي الزائف على الآخر حيث تصبح الحضارة الغربية رغم تقدمها نموذج للخواء الأخلاقي في مقابل الحضارة الاسلامية التى تعد رغم تخلفها نموذج للكمال الاخلاقي وكأنهما سفينتان متناقضتان لا يمكن ركوبهما .
هذا يعني أن هناك قصور في فهم الحداثة عند الكثير من المسلمين أن يعوا بشكل عملي أن الإسلام وفكره لا يتعارض مع الحرية فدولة الإسلام مدنية والشورى من دعائم الحكم الإسلامي والإقتصاد القائم على المشاركة من أسس الإقتصاد الإسلامي والتعايش السلمي ومن مبادئ الإسلام واحترام الآخر منهج اسلامي حتى اعتبر الإسلام الكفر دين فقال تعالى في سورة الكافرون { لكم دينكم ولي دين } فالقصور في فهم الحداثة مشكلة الكثير من المسلمين والاسلام منهم براء .