هذه واحدة من الشبهات المثارة، والتي تلقّفتها بعض الدراسات المعاصرة، وإنّ الذي يستحضر عقله للنظر المتجرّد والمتفحّص في الرواة من الصحابة والتابعين سيُدرك هشاشة هذه الشبهة وتهافتها، وكان ينبغي على من طرح هذه الشبهة أن يميّز لنا بعض هؤلاء المنافقين الرواة ويسمّيهم، ويقول كيف عرفهم، والنبيّ ﷺ لم يعرفهم إلا من طريق الوحي؟ ثم لم يُطلعهم على أصحابه إلّا ما كان مع حذيفة بن اليمان، والمعنى أنّكم إذا زعمتم أنّ في رواة الصحيحين أو غيرهما صحابة “منافقين مندسين”، طالبناكم بذكر أسمائهم، وإثبات نفاقهم، وبيان أحاديثهم، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، نقول إنّ دعوى وجود منافقين من الصحابة رواة للحديث، أو من بعدهم، إنّما هو طعن في الوحي نفسه، ومناقضة له، لأنّ الله قد تكفّل بحفظه، فهل ترى يحفظ الله القرآن ولا يحفظ بيانه، وهو السنّة؟ والتي أمرنا باتباعها، وأنّها بيان للقرآن، فكيف يُعقل زوال البيان وبقاء المبيَّـن؟
ثم إنّ الله بيّن أنّه سيعذّب هؤلاء المنافقين- ممن حول المدينة من الأعراب وممن كان بالمدينة- مرّتين في الدنيا ثم يردّون إلى عذاب عظيم في الآخرة، قال تعالى: ﴿ وَمِمَّنۡ حَوۡلَكُم مِّنَ ٱلۡأَعۡرَابِ مُنَٰفِقُونَۖ وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ لَا تَعۡلَمُهُمۡۖ نَحۡنُ نَعۡلَمُهُمۡۚ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيۡنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيم﴾ . [التوبة: 101]. فإذا كان هذا حالهم مع الله، أفيسمح لهم أو لبعضهم بالرواية عن رسول الله ﷺ فيدسّ عليه، ولا يكشفه؟ وقد علم أنه سبحانه قد كشف أعمالهم وأسرارهم وصفاتهم في آيات كثيرة، أفيسكت عن كذبهم ودسهم على رسول الله ﷺ؟
أمّا أصحاب النبيّ ﷺ من المهاجرين والأنصار فقد برّأهم الله من هذا النفاق في قوله عز وجل:﴿وَٱلسَّٰبِقُونَ ٱلۡأَوَّلُونَ مِنَ ٱلۡمُهَٰجِرِينَ وَٱلۡأَنصَارِ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحۡسَٰن رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُ وَأَعَدَّ لَهُمۡ جَنَّٰت تَجۡرِي تَحۡتَهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَداۚ ذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ وَمِمَّنۡ حَوۡلَكُم مِّنَ ٱلۡأَعۡرَابِ مُنَٰفِقُونَۖ وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ لَا تَعۡلَمُهُمۡۖ نَحۡنُ نَعۡلَمُهُمۡۚ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيۡنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيم﴾ [التوبة: 100-101].
فقد عطف ذكر المنافقين من الأعراب ومن بعض أهل المدينة على ذكر المهاجرين والأنصار ومن اتّبعهم بإحسان- وقد أثنى عليهم الثناء الجميل ووعدهم بالجنّة والرضوان- ما يدلّ على أنّ هؤلاء الصحابة لم يكن فيهم منافقون. صحيح أنّنا لا ننكر وجود منافقين في صفوف المسلمين آنذاك، بل أُدرجوا في مسمى الأصحاب كما في قصة عبد الله ابن أبي: وفيها قوله ﷺ لعمر رضي الله عنه: “دعه، لا يتحدث الناس إن محمّدا يقتل أصحابه”([1])، وقد كان رسول الله ﷺ يعرفهم بأعيانهم عن طريق الوحي، والقرآن الكريم قد بين أخبارهم وصفاتهم. ولا ننكر -كذلك- أنّ هناك من كان صحابيا ثم ارتدّ عن الإسلام، وأهل الحديث قد بيّنوا أسماءهم وأخبارهم ولم يُخفوها، لكن هل يوجد منافق أو مرتدّ يروي الأحاديث عن رسول الله ﷺ وسكت الوحي عنه، ولم يتبيّـن المسلمون حاله؟ وهذا الذي نطالب مدّعيه بإثباته وهيهات.
وفي صحيح البخاريّ من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه- صاحب سرّ رسول الله ﷺ- قال: (ما بقي من أصحاب هذه الآية([2]) إلا ثلاثة، ولا من المنافقين إلا أربعة. فقال أعرابـي: إنّكم أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم تُخبروننا، فلا ندري، فما بال هؤلاء الذين يبقرون بيوتنا ويسـرقون أعلاقنا؟ قال: أولئك الفسّاق، أجل لم يبق منهم إلا أربعة؛ أحدهم شيخ كبير لو شرب الماء البارد لما وجد برده)([3]). وفي رواية عند ابن أبي شيبة، قال حذيفة رضي الله عنه: “ما بقي من المنافقين إلا أربعة، أحدهم شيخ كبير لا يجد برد الماء من الكبر”، قال: فقال له رجل: “فمن هؤلاء الذين ينقبون بيوتنا ويسرقون علائقنا؟، قال: ويحك، أولئك الفساق)([4]).
وهذا الأثر قد فرّق بين الكفّار والمنافقين والفسّاق، وهو يدلّ على قلّة عدد المنافقين الموجودين بين ظهراني الصحابة، وقد عرفهم حذيفة بأعيانهم، بل انكشف أمرهم عند عامة الصحابة، لا سيما بعد غزوة تبوك حيث تبين للعلن نفاقهم بتخلفهم عن الغزوة، وهذه الآية من سورة التوبة، وهي من أواخر ما نزل القرآن، بعد غزوة تبوك. ويدلّ- أيضا- على أنّ حذيفة كان يعرفهم بأعيانهم وإلّا لما عدّهم أربعة، وحدّد أحدهم بوصفه. وهذا كعب بن مالك رضي الله عنه يحكي يوم ابتلي بالتخلف عن الغزاة مع رسول الله ﷺ: (… فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله ﷺ فطفت فيهم، أحزنني أني لا أرى إلا رجلا مغموصا عليه النفاق، أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء)([5])، فذكر هؤلاء المتخلفين المنافقين لاشتهار أمرهم، وذكر معهم من تخلف من الضعفاء، وميز بينهم. قال العلامة المعلمي اليماني: (وفي هذا بيان أن المنافقين قد كانوا معروفين في الجملة قبل تبوك، ثم تأكد ذلك بتخلفه لغير عذر وعدم توبتهم، ثم نزلت سورة براءة فقشقشتهم)([6]).
أما ما ورد في صحيح مسلم وغيره، من إثبات وجود منافقين في الصحابة كما في حديث حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: “في أصحابي اثنا عشر منافقا، فيهم ثمانية لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط، ثمانية منهم تكفيهم الدبيلة وأربعة..” لم أحفظ- القائل الراوي- ما قال شعبة فيهم الحديث”([7]).
والجواب: ليس في الحديث ما يدل على وجود اتباع للنبي ﷺ يوصفون من المنافقين ويقال عنهم صحابة بالمعنى الاصطلاحي، إذ لا يجتمعان، والدليل في هذا الحديث أنه ﷺ لم يقل من أصحابي اثنا عشر منافقا بل قال “في أصحابي”، وهناك فرق بين العبارتين، هذا من وجه، ومن وجه ثان وردت رواية مبينة لهذا المعنى وهي قوله ﷺ: “إن في أمتي اثني عشر منافقا لا يدخلون الجنة … الحديث”([8])، فتبين أن المقصود بالأصحاب في الرواية ما هو في الظاهر لا حقيقة الصحبة بالمعنى الاصطلاحي؛ لأن النبي ﷺ كان يعرف المنافقين، فكيف يشرفهم بمسمى الصحبة ويثبت لهم فضلها ويقبل بهم في اتباعه الذين شرفهم الله بذكر أوصافهم الطيبة؟ أيمكن أن يكون الرجل منافقا كافرا وهو صحابي؟ كيف يتصور هذا؟ قال الإمام النووي: (أما قوله ﷺ “في أصحابي” فمعناه الذين يُنسبون إلى صحبتي كما قال في الرواية الثانية: “في أمتي”)([9])، فلا يفرح الطاعنون بهذا الحديث لأنه لا يخدم غرضهم.
ثم إن تحديد النبي ﷺ لعددهم باثني عشر دليل على العلم بهم وبأشخاصهم، وما يؤكد ذلك خبر حذيفة الذي سبق، وفيه: “ما بقي من المنافقين إلا أربعة، أحدهم شيخ كبير لا يجد برد الماء من الكبر”، فهل ثبت أن أحدا من هؤلاء روى حديثا عن النبي ﷺ أو نقل شيئا من الدين، وخفي على الصحابة؟
وبهذا يتبين أن دعوى وجود منافقين في الصحابة الرواة لا أساس لها علمي أو تاريخي.
تنزيل PDF