حتى نحقق ما نرجو من نهضة، لابد من تفعيل الاجتهاد والمراجعات في المجالات كافة، بما يعيد للحقائق والمفاهيم صفاءها وجوهرها، ويزيل عنها ما أصابها من غبش؛ وبما يجعل العقل المسلم متماسًّا مع هموم عصره ومستجداته.. ولن يكون ذلك إلا بنقد صادق وعميق، شامل لجوانب حياتنا المتعددة.

فالنقد ينبع من الشعور بالحاجة للمراجعة، ومن عدم الرضا عن الذات والواقع.. وهو في الوقت نفسه مُتضمَّن في عملية الاجتهاد. فالاجتهاد يستبطن بالضرورة موقفًا نقديًّا من الأمر المراد ممارسة الاجتهاد فيه؛ لأنه لو لم يكن ثمة نقدٌ لمسألة ما أو لواقعة معينة، ما نشأت أصلاً الحاجةُ للاجتهاد في المسألة أو الواقعة، ولا تم البحثُ عن تكييف وحُكْم جديدين لها.

ولكي يؤدي النقد الفائدة المعلَّقة عليه، فإنه محتاج لبعض الأسس والضوابط؛ التي ترشِّده وتوجِّهه الوجهة الصحيحة؛ مما تشير إليه السطور التالية بإيجاز.

النقد فريضة غائبة

وأول ما نلاحظه هنا، أن النقد رغم أهميته وضرورته، يبقى فريضةً غائبة في واقعنا! وهذا الغياب له أسبابه الكثيرة؛ بعضها يرتبط بالتربية والتنشئة، إذ لم تترسخ لدينا قيم إبداء الرأي والدفاع عنه، وقبول الرأي المخالف واحترامه، والحوار وآدابه.. وبعضها يرتبط بالظروف الاجتماعية والسياسية التي تجعل من عملية النقد مغامرة لها تبعاتها وأثمانها الفادحة؛ مما يجعل الإحجام عن النقدِ أخفَّ الضررين!

ولهذا، لا بد من إعادة النظر في مناهجنا التربوية، وفي تقاليدنا التي نتبعها في مختلف جوانب الحياة؛ إضافة إلى رفع سقف الحريات بما يتيح للآراء المتعددة أن تجد متنفسًا طبيعيًا، لا أن تظل حبيسة الجدران أو الصدور أو الأدراج!

وعلينا أن نعلم أن إتاحة الفرصة للنقد هو خير سبيل للتعرف على صوابية ما نعتقد من آراء ومذاهب، وما ننوي الإقدامَ عليه من خطوات.. فالنقد يرشِّد الفكر والسلوك ويقوِّمهما، ويفتح الطريق أمام تجويد العمل وتدارك العيوب وتصحيح الأخطاء. ولا تتقدم الأمم إلا بهذه الثقافة التي تساعدها على استقامة الفكر والعمل.

لا أحد كبير على النقد

إذا كان “كل ابن آدم خطَّاء”، كما في الحديث الشريف عن أنس بن مالك؛ فإن بني آدم بالضرروة يحتاجون جميعًا للنقد والنصيحة.. بما يعني أن لا أحد كبير على الخطأ، وبالتالي على النقد.

و”العصمة”، وهي عدم الوقوع في الخطأ، لا تجب لغير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ بل هي في حقهم محصورة فيما يتصل بالبلاغ عن الله تعالى، وفي الحفظ من كبائر الذنوب.

ولهذا صرح غير واحد من الأئمة بأن كلامه مستمَد من الكتاب والسنة، ولا قيمة له إذا خالفهما. قال الشافعي: إذا قلت قولاً خالف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاضربوا بقولي عرض الحائط. وقال أحمد: لا تقلدني، ولا تقلد مالكًا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري؛ وخُذْ من حيث أخذوا. وقال: لا تقلد في دينك الرجال؛ فإنهم لن يسلموا من أن يغلطوا.

فلم يدّعِ أحد من العلماء العصمة لنفسه، ولا ينبغي أن يدعيها لهم أحد؛ وإنما هم بشر يصيبون ويخطئون، وصوابهم مستمد من صواب ما يستندون إليه من أدلة.

ومع هذا، فمن المهم عدم المسارعة إلى التخطئة، فضلاً عن اتهام النيات والرمي بكل نقيصة؛ وإنما علينا أن نتحرى موارد اجتهاد العالِم، فربما كان له من الدليل ما خفي عند النظرة الأولى. وحتى عند ثبوت الخطأ فلايجوز اتهام النيات، ولا الطعن والتجريح؛ فالخطأ العلمي لا يعني جرًما خُلقيًّا، وإنما المجتهد مأجور على كل حال، أصاب أم أخطأ.

النقد للقول لا القائل

وهذا أمر مهم جدًّا في عملية النقد التي ندعو إلى ممارستها وتفعيلها؛ فما أكثر ما ينظر المرء أولاً إلى القائل ليرى: هل يأخذ بقوله أم لا! بينما الصحيح أن نجعل مدار الحديث والنقاش على القول لا على القائل. لأن إدارة الحديث والنقد على القائل، يجعلنا نقبل ممن نحبهم ونرفض ممن لا نحبهم، بغض النظر عن صواب أو خطأ رأي هؤلاء وأولئك!

كما أن الانتباه للقول فحسب، يجعل النقاش أقل حدة، ويكون محصورًا في الجوانب العلمية لا الشخصية؛ إذ إن خَلْطَ الناحيتين بعضهما ببعض يعقّد النقاش، ويجعله ينحو منحى مغايرًا لما توجبه عملية النقد والثمرة المرجوة منها.

لقد كان من أساليب كفار مكة في التوائهم وإعراضهم، أن يديروا حوارهم مع النبي صلى الله عليه وسلم على شخصه الكريم لا على مضمون رسالته، حتى قالوا: {لَوْلَا نُزِّلَ هَٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (الزخرف: 31). وكان الأولى بهم أن ينظروا في صدق الرسول والمبلِّغ، وفي استقامة الرسالة والمنهج!

لماذا نخشى النقد؟

الإجابة على هذا السؤال كاشفة عن أسباب عدم شيوع ثقافة النقد في حياتنا، لاسيما بالطريقة التي تجعله يقيم نقاشًا بنّاءً يتغيّا الحقيقة ولايتوه في مسالك عقيمة!

• فقد نخشى النقد لهوى في النفس، يصرف عن نشدان الحق واتباعه؛ فيتم اللجوء لغلق باب النقد من الأساس حتى لا ينكشف ضعف الحجة، وبالتالي لا ينفضح هوى النفس.

• وقد نخشى النقد لضعف الأدلة التي نستند إليها؛ فالنقد الذي يمارس بحرية كفيلٌ بتمحيص الآراء وبيان صحيحها من سقيمها.

• وقد نخشى النقد جريًا على تربية التسلط والكبر، وتأثرًا بما كانت عليه التنشئة الأسرية والاجتماعية من الصوت الواحد، والخضوع بلا نقاش، والطاعة العمياء غير المبصرة!، فلم تترسخ بعدُ ثقافة الاختلاف ولا قيم الحوار والنقاش. وهذه الثقافة تحتاج وقتًا طويلاً؛ والبدايةُ من الأسرة الصغيرة (البيت) وصولاً إلى الأسرة الكبيرة (المجتمع).

لقد كانت سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مثالاً تطبيقيًّا على ترسيخ ثقافة الحوار والنقاش، وتربيةً عملية على الإيجابية في إبداء الرأي والنصح حتى من غير أن يُطلب.. وجاء ذلك كله محوطًا بالأدب الجم والخلق الرفيع.

ويكفي في هذا الصدد أن نشير إلى موقف الحباب بن المنذر في غزوة بدر؛ فهو:

– نظر في نفسه أولاً، فوجد أن المنزل الذي نزله المسلمون غير مناسب لما تقتضيه المعركة.

– ثم بادر إلى عرض وجهة نظره، من غير أن يُطلب منه ذلك.

– ثم استفسر من النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبدي رأيه، عما إذا كان هذا المنزل وحيًا أم رأيًا واجتهادًا.

– ثم بعد أن علم أنه محض اجتهاد، أعلن رأيه وعلَّله؛ أي أبان الحكمة بما لا يدع مجالاً لاستفهام مُستفهِم، حتى يكون الطرح كاملاً.

– ثم كان الجواب أن قَبِلَ النبي صلى الله عليه وسلم الرأي المقترَح، وأمر بالعمل بمقتضاه.

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حُدِّثْتُ عَنْ رِجَالٍ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ، أَنَّهُمْ ذَكَرُوا: أَنَّ الْحُبَابَ بْنَ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَمُوحِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ هَذَا الْمَنْزِلَ، أَمَنْزِلًا أَنْزَلَكَهُ اللَّهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدَّمَهُ، وَلَا نَتَأَخَّرَ عَنْهُ، أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟ قَالَ: بَلْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلِ، فَانْهَضْ بِالنَّاسِ حَتَّى نَأْتِيَ أَدْنَى مَاءٍ مِنْ الْقَوْمِ، فَنَنْزِلَهُ، ثُمَّ نُغَوِّرُ مَا وَرَاءَهُ مِنْ الْقُلُبِ، ثُمَّ نَبْنِي عَلَيْهِ حَوْضًا فَنَمْلَؤُهُ مَاءً، ثُمَّ نُقَاتِلُ الْقَوْمَ، فَنَشْرَبُ وَلَا يَشْرَبُونَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقَدْ أَشَرْتَ بِالرَّأْيِ. فَنَهَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ النَّاسِ، فَسَارَ حَتَّى إذَا أَتَى أَدْنَى مَاءٍ مِنْ الْقَوْمِ نَزَلَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَمَرَ بِالْقُلُبِ فَغُوِّرَتْ، وَبَنَى حَوْضًا عَلَى الْقَلِيبِ الَّذِي نَزَلَ عَلَيْهِ، فَمُلِئَ مَاءً، ثُمَّ قَذَفُوا فِيهِ الْآنِيَةَ (السيرة النبوية، ابن هشام، 1/ 620).

بهذه النقاط التي أشرنا إليها- بإيجاز- وبغيرها، يترسخ “النقد” في حياتنا الفكرية والاجتماعية، ويؤدي دوره المهم في “الاجتهاد” المرجو و”المراجعات” المطلوبة!