انطلقت في بحر هذا الأسبوع جلسات البرنامج الرمضاني الحواري “وآمنهم من خوف”، الذي تنظمه وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في نسخته الثامنة بساحة جامع الإمام محمد بن عبد الوهاب بالدوحة. وتستمر هذه الجلسات لمدة ثلاثة أيام، بحضور نخبة مميزة من علماء ومفكري العالم الإسلامي المشهود لهم بالاعتدال والرسوخ.

ستناقش الجلسات الثلاث للبرنامج موضوعات راهنة ومشكلات وقضايا تهم حاضر الأمة الإسلامية ومستقبل أمنها الثقافي الشامل، وتصحيح بعض المفاهيم الخاطئة، وطرح رؤى تأصيلية ومراجعات فكرية، وأهم التحديات التي تعوق نهوض العالم الإسلامي.

وقد حرصت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في قطر أن يكون برنامج “وآمنهم من خوف” منبرا حرا مباشرا يقَدَّمَ خلاله أعلامٌ من علماء الأمة ومفكريها أطروحات تجديدية لمشروع حضاري يليق بأمة القرآن في شهر القرآن.

علماء الأمة يشاركون في برنامج “وآمنهم من خوف”

وأوضـحـت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية أن “وآمنهم من خوف” برنامج حواري تعده الوزارة، لتجديد عهد الأمـة بأصواتها الحية المـسـمـوعـة، حيث تستضيف لتقديمه ثلة مـن علماء الأمــة. حيث يشارك في جلسات “وآمنهم من خوف” لهذه السنة كلا من الشيخ الدكتور عثمان الخميس الداعية الإسلامي والموجه الشرعي في وزارة الأوقاف بدولة الكويت، والشيخ الدكتور حسين كفازوفيتش رئيس العلماء بالمشيخة الإسلامية بالبوسنة والهرسك، والشيخ الدكتور و الأكاديمي الدكتور نورالدين الخادمي وزير الشؤون الدينية السابق بجمهورية تونس، وفضيلة الشيخ يوسف الحسيني الندوي مدير جامعة الإمام أحمد بن عرفان الشهيد بلكناو (الهند)، و الشيخ الدكتور عصام البشير المراكشي المدير العام لمركز إرشاد للدراسات والتكوين بالمملكة المغربية، و فضيلة الشيخ الدكتور خالد بن محمد آل ثاني مدير الإدارة العامة للأوقاف بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في قطر.

ثلاث جلسات وثلاث إشكالات

وتناقش الجلسات الثلاث للبرنامج موضوعات راهـنـة، حيث كان عـنـوان الجلسة الأولـى مساء الثلاثاء الرابع من رمضان 1443هـ المـوافـق للخامس من أبريل 2022م “تعليم الدين الإسلامي، واقعه وسبل تطويره”، فيما يكون عنوان الـجلسة الثانية يوم الأربعاء 5 رمضان “دور الشباب المسلم في تحقيـق نهضة المجتمع”، وتـختتم الجلسات يوم الخميس 6 رمضان الموافق 7 أبريل 2022م، بجلسة عنوانها “المحتوى الرقمي الإسلامي وإشكالية الترجمة”.

وتنقل الـجلسات مباشرة على قناة الجزيرة مباشر، وعـبر حسـابات الوزارة على منصـات التواصل الاجتماعي.

كورونا ومعضلة تعليم الدين الإسلامي

وقد انتظمت الحلقة الأولى من الجلسات الثلاث لـعـام 1443هــــ المــوافــق 2022م، مساء الـثـلاثـاء الخامس من رمـضـان فـي ساحة جامع الإمــام محمد بـن عبد الوهاب بالدوحة، ليـسـتـمـر بـرنـامـج “وآمنهم من خوف” يـومـي الأربــعــاء والـخـمـيـس 6 و7 رمـضـان، وذلـك بحضور نخبة مميزة من علماء ومـفـكـري الـعـالـم الإسـلامـي، وتدوم كل جـلـسـة مــدة سـاعــة واحـــدة مــن الـسـاعـة 10:00 إلى 11:00.

في بداية الحلقة الأولى من الجلسات تم الإشارة إلى الظروف الطارئة التي سببتها جائحة كورونا، وعصفت بالعالم أجمع تاركة آثارها السلبية على العالم الإسلامي، فإذا كانت الجائحة التي حلت بالعالمين قد حالت دون لقاء مباشر بين العلماء، الذين دأب البرنامج على استضافتهم خلال النسخ السابقة، فإن الله سبحانه قد من على عباده برفع الوباء فعادت الحياة إلى طبيعتها أو تكاد.

للإشارة، نظرا للظروف الطارئة المتعلقة بجائحة كوفيد -19، فقد تعذّر عقد جلسات برنامج “وآمنهم من خوف” بالصورة التي تمت خلال السنوات الخمس الأولى، حيث كان يتم التواصل مع بعض السادة العلماء عن طريق تقنيات الفيديو. وتعتبر هذه المرة الأولى التي يجتمع فيها علماء الأمة في برنامج “وآمنهم من خوف” على أرض الواقع، بعد تحسن الأوضاع بشكل ملحوظ فيما يتعلق بمسألة انتشار وباء كورونا.

الهجمة على برامج التعليم

وأرجع البرنامج سبب اختيار موضوع “تعليم الدين الإسلامي، واقعه وسـبل تطويره”، إلى صدور تقارير دولية شرقية وغربية، ادعت مراجعة محتوياته ومناهجه، وربطت بين مضامينه وموجات التطرف والكراهية، وبلغ الأمر ببعضها أن أضحت تحدد ما يحسن أن يدرس في التعليم الديني وما ينبغي حذفه، وأصبح تدريس المغازي تأجيج للفكر العسكري الذي يقود إلى وجود جماعات متطرفة، وأضحى تأصيل القيم وفق سلم أخلاق إسلامي دعوة إلى الانفصالية ومصادرة للتنوع في المجتمعات المتعددة.

وطرحت الجلسة الأولى من برنامج “وآمنهم من خوف” جملة من الأسئلة والإشكالات لمناقشة مسألة “تعليم الدين الإسلامي، واقعـه وسبل تطويره”: فما هو واقع التعليم الديني الإسلامي؟ وما هي العوائق والتحديات التي تواجه مدارس التعليم الديني في العالم الإسلامي؟ وبخاصة بعد محاولات مراجعة مناهجه، وتدخل أطراف عديدة في المراجعة، أغلبها من خارج العالم الإسلامي. وماهي سبل تطويره وما دور الأوقاف الإسلامية في ذلك؟

الخميس: التعليم الشرعي عزة للإسلام

وعما وقع من عزل التعليم الديني عن غيره ونتيجة ذلك من إخلال للتصور الديني عموما تحدث الدكتور عثمان الخميس عن حدود التعليم الديني وخصائصه في المنظور الذي استقرت عليه الأمة في العصور الزاهرة لحضارة الإسلام. وقال الخميس أننا – كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه- أمة أعزنا الله بالإسلام، وهذا لا يكون إلا بالتعليم الشرعي. فالعصر الذهبي للأمة الإسلامية والعلم هو عصر الرسول صلى الله عليه وسلم والذين جاؤوا بعده من التابعين، والحديث عن العلم لا يتعلق فقط بالعلم الشرعي وإنما بكل العلوم، وكلما ابتعدت الأمة عن العلم كلما ضعفت، كما هو الحال اليوم، حيث تكاثر الأعداء على أمة الإسلام وأجبروها على أمور لا ترتضيها. وأكد الخميس أن الاهتمام بالعلم الشرعي وغيره من العلوم هو بلوغ الدرجة الرفيعة والوصول إلى مصاف الدول المتقدمة ومواجهة الأخطار، وهذا الاهتمام لا يكون إلا على الطريقة التي كان عليها سلفنا الصالح، مع التجديد والاستفادة من التقنيات الحديثة، لا التجديد الذي يقول عنه الرافعي رحمه الله، يريدون أن يجددوا فينا العقيدة والشمس والقمر…

الندوي:التعليم الديني يحارب علنا منذ 30 سنة

وعن سؤال: ما الذي يحتاجه التعليم الديني ليستجيب لمتطلبات المجتمع؟ وهل التعليم الديني حقا في أزمة؟ قال الدكتور يوسف الحسيني الندوي أن التعليم الديني يحارب علنا وبقوة منذ أكثر من 30 سنة، من خلال سياسات غربية والتي تأثرت بها السياسات الشرقية، مشيرا أن هذا الموضوع أخذ حقه من البحث والدراسة، لكن بعد جائحة كورونا انقلبت الموازين وتغيرت المفاهيم، والشعوب الإسلامية التي تعيش خارج العالم العربي لها مشكلات ومعضلات تختلف عن المشكلات التي تواجهها منطقة العالم العربي أو ما يسمى بالشرق الأوسط. وقسم الندوي هذه المنطقة إلى ثلاث أقسام: دول الخليج ولها مشكلات خاصة، والدول العربية التي تقع في افريقيا وآسيا وحدود أوروبا حتى حدود تركيا ولها أوضاع مختلفة، أما الشعوب التي تدخل في العالم الاسلامي كالهند وباكستان والصومال وبنجلاديش وماليزيا واندونيسيا وغيرها وهذه لها اشكاليات أخرى. ففي الهند مثلا هناك فرض لمواد شركية إجبارية في برامج التعليم حتى في المدارس الإسلامية. وبالتالي الأمر مختلف بين الدول الإسلامية ويحتاج الأمر إلى مقاربة جادة لإيجاد الحلول.

وفي ختام كلمته، دعا الندوي إلى إنشاء لجنة مختصة لبحث هذه المسألة، خاصة وأن قطر مثلا دولة رائدة في التعليم ولها تجربة جيدة في هذا المجال، وتمتلك مستوى راق جدا في العالم العربي، حتى يتم التأقلم بصفة قانونية مع السياسات الدولية والاقليمية في مجال التعليم بصورة لا تمس تعاليمنا الدينية الإسلامية.

كفازوفيتش: التعليم الديني منتشر في البلقان منذ 5 قرون

أما الدكتور حسين كفازوفيتش المفتي العام للبوسنة والهرسك فتحدث عن انتشار التعليم الديني منذ 5 قرون في دول البلقان، وكيف اهتم المسلمون في البوسنة الهرسك بفتح المدارس الإسلامية ونشر المناهج التعليمية الإسلامية، وقد أخذ هذا الأمر مئات السنين، لأن البرامج التعليمية لا تتطور بالقفزات وإنما بالاستمرارية، وهو ما جعل تلك المدارس اساس انتشار التعليم الديني واستمراره، مشيرا إلى توفير الحماية من قبل مسلمي المنطقة لتعاليم الدين الإسلامي ورفض التدخل فيها. فعلى الرغم من أن الشريعة الإسلامية لا تطبق في البوسنة والهرسك لكن المواطنين يطبقونها في بيوتهم لتمسكهم بالدين الإسلامي.

اما في هذا العصر -يقول كفازوفيتش- لا بد من التمسك بالقيم والأخلاق الاسلامية أولا في بيوتنا ومدارسنا وكلياتنا ثم الوقوف أمام تدخل الآخرين في مناهج التربية التعليم.

المراكشي: الانتقال من نظام تعليمي إلى آخر هو السبب

من جهته أكد الدكتور عصام البشير المراكشي أن المشكلة حدثت عندما وقع تغير شديد في الأمة التي انتقلت بسرعة من نظام تعليمي معين إلى نظام تعليمي آخر ولم تستطع المزاوجة بينهما، فإلى الآن لا نزال نعاني من طلبة جامعيين لا يتقنون كثيرا من العلوم الشرعية، ولا يحسنون التعامل مع كتب التراث، ويجيدون التعامل مع المناهج العلمية أكثر من الكلام في العلم نفسه. وبالمقابل لا يزال لدينا بعض طلبة العلم الشرعي العتيق يعانون أيضا من عدم القدرة على التعامل مع العلوم الحديثة. ثم يضاف الفصام بين العلوم الشرعية والعلوم الكونية، فلدينا علماء شرعيون لديهم شيء من النقص في معرفة هذه العلوم الكونية، وبالتالي عندما يطلب منهم الفتوى في هذه العلوم تكون فتواهم قاصرة. ونفس الشيء يحدث مع اصحاب العلوم الكونية الهندسة والطب وغيرها.

ويقول المراكشي ان ما نحتاج إليه، إلى أن ننشئ علماء موسوعيين – وهو أمر ولى زمنه في تقديري – هو ربط تلك القنطرة الصغيرة بين العالمين، بأن يكون أي عالم قادر عند الحاجة للاستفادة من علوم غيره من ذوي الاختصاصات الأخرى.

الخادمي: التعليم الديني مسألة سيادية

في حين ركز نورالدين الخادمي على أسباب تعطيل التعليم الإسلامي وتمكن التصور العلماني الغربي من العالم الإسلامي، وقال الحال هو وضع آلت إليه أمتنا في علاقتها بأمم أخرى على صعيد المعرفة وما تقتضيه من مقتضيات منهجية وتعليمية وسياقية ووظيفية. فالمعرفة في مجتمعاتنا الإسلامية هي معرفة أمة، بهوية وخصوصية واستحقاق تاريخي وحضاري وبمصالح استراتيجية تعبر عن هذه الأمة، فالمعرفة مقوم للأمة ولأمنها الوطني والقومي، هذه المعرفة الدينية الإسلامية هو علم سيادي وتخصصي وتطويري وتجديدي، فتعليم الدين هو حق سيادي لهذه الأمة. وبالتالي من حق الأمة الإسلامية في سيادة تعليمية ترتقي إلى الدستور والإرادة العامة.

خالد بن محمد: نحو نهضة وقفية شاملة

أما الدكتور خالد بن محمد آل ثاني فتحدث عن كفالة الأوقاف للتعليم الديني الإسلامي، وما الذي ينبغي للأوقاف أن تقوم به، حتى تسترجع دورها الريادي والسيادي في التعليم الديني. وقال إن التعليم الديني في مجتمعاتنا الإسلامية هو تعليم ذاتي في الأساس ينطلق من الآية الكريمة التي نزلت على الرسول عليه الصلاة والسلام وهي “اقرأ”، وكذلك من سيرة النبي في ضرورة طلب العلم، ثم من سار على دربه من الصحابة التابعين الذين نشروا العلم والتعليم مجانا ودون مقابل يذكر. لكن الأمر تغير في العصور التي تلت ذلك بسبب تزايد أعداد طلبة العلم، حيث تم الاتفاق للاعتماد على بيت المال من أجل نشر التعليم، وهو ما مهد لظهور المدارس الوقفية بفضل مساعي العلماء.

وفي هذا الشأن يقول الدكتور خالد أنه من خلال تتبعه لهذه المدارس الوقفية في التاريخ وجد أن أقدم مدرسة خارج المسجد كانت مدرسة اسمها “فارجك” في بوخارى أسست سنة 325ه، ثم ظهرت أول مدرسة وقفية خارج الجامع وعليها أوقاف وهي مدرسة أسسها الإمام أحمد بن أسحاق وسماها “دار السنة” سنة 335ه وإلى ذلك من الأمثلة الوقفية كجامع القرويين بفاس وهو أقدم جامعة مستمرة في تدريس العلوم الشرعية وغيرها.

كما أشار الدكتور خالد إلى مرور الأوقاف بحقب مختلفة من الضعف، حيث ضاع عبر العصور العديد من الأوقاف ومنها الأوقاف التعليمية، ومنها ما فقد فاعليته وأهميته وضعفت إيراداته أو تسلطت عليها جهات فسلبتها استقلاليتها، وهو ما أدى إلى ضعف الأوقاف عموما والأوقاف التعليمية على وجه الخصوص في العالم الإسلامي.

وأضاف الدكتور خالد أنه في العقود الأخيرة في دولة قطر وغيرها من الدول، برزت نهضة وقفية بفضل القوانين التي تحمي الأوقاف، وتحمي أيضا شروط الواقفين، مما يهيئ بيئة حقيقية مناسبة لنمو هذه الأوقاف لتؤدي رسالتها على أكمل وجه.

وقال الدكتور خالد أنه بالنسبة لقطر تم إنشاء المصرف الوقفي للتنمية العلمية والثقافية الذي نشأ منه العديد من المشاريع الوقفية، كمشروع وقفية طالب علم، ومشروع وقفية طالب علم من ذوي الإعاقة، ومشروع وقفية المدارس والمنح الدراسية.. وغيرها من المشاريع داخل وحارج قطر. وما يميز هذا المصرف أيضا هو إنشاء موقع الشبكة الإسلامية وهو أكبر موقع إسلامي وقفي، نشرت به السنة الماضية فقط آلاف الفتاوى والمقالات وآلاف الاستشارات الطبية والنفسية وإطلاق العديد من التطبيقات.

كما عبر الدكتور خالد في ختام الحلقة الأولى من برنامج “وآمنهم من خوف” عن أمله خلال السنوات القادمة أن تضطلع الأوقاف بدورها الكبير في التنمية العلمية والثقافية في العالم الإسلامي بل في العالم بأسره.