نفاق دون نفاق
لما كانت هذه الأوصاف موجودة بشكل ملفت كذلك في المسلم والمنفق وغيرهما، وكان من الآفات الخطيرة حسب وصف النبي ﷺ لها، دينية أو اجتماعية، وإطلاق اسم المنافق على من يوجد فيه هذه الأمور المذمومة، فقد ذهب بعض العلماء إلى أن النفاق المراد هنا نفاق العمل وليس نفاق الاعتقاد الذي يدخل صاحبه النار، بل يكون في الدرك الأسفل منه. يقول القاضي عياض: قد توجد هذه الأوصاف الآن فيمن لا يطلق عليه اسم النفاق، فيحتمل أن يكون الحديث محمولا على زمنه ﷺ، وكان ذلك علامة للمنافقين من أهل زمانه. ولا شك أن أصحابه كانوا مبرئين من هذه النقائص مطهرين منها، وإنما كانت تظهر فى زمانه فى أهل النفاق، أو يكون ﷺ أراد بذلك من غلب عليه فعل هذه واتخذها عادة تهاونا بالديانة، أو يكون أراد النفاق اللغوى الذى هو إظهار خلاف المضمر. وإذا تأملت هذه الأوصاف وجدت فيها معنى ذلك؛ لأن الكاذب يظهر إليك أنه صدق ويبطن خلافه، والخصم يظهر أنه أنصف ويضمر الفجور، والواعد يظهر أنه سيفعل وينكشف الباطن بخلافه[2]. وبناء على ذلك اختلف العلماء في بيان المقصود بالمنافق في الحديث الشريف، نذكر طرفا من أقوالهم: يقول ابن رجب: والذي فسره به أهل العلم المعتبرون أن النفاق في اللغة هو من جنس الخداع والمكر وإظهار الخير وإبطان خلافه، وهو في الشرع ينقسم إلى قسمين: أحدهما: النفاق الأكبر، وهو أن يظهر الإنسان الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويبطن ما يناقض ذلك كله أو بعضه، وهذا هو النفاق الذي كان على عهد النبي – ﷺ -، ونزل القرآن بذم أهله وتكفيرهم، وأخبر أن أهله في الدرك الأسفل من النار. والثاني: النفاق الأصغر، وهو نفاق العمل، وهو أن يظهر الإنسان علانية صالحة، ويبطن ما يخالف ذلك. وأصول هذا النفاق ترجع إلى الخصال المذكورة في هذه الأحاديث، وهي خمسة: الخصلة الأولى: أن يحدث بحديث لمن يصدقه به وهو كاذب له. قال الحسن: كان يقال: النفاق اختلاف السر والعلانية، والقول والعمل، والمدخل والمخرج، وكان يقال: أس النفاق الذي بني عليه الكذب. الخصلة الثانية: إذا وعد أخلف، وهو على نوعين، أحدهما أن يعد ومن نيته أن لا يفي بوعده، وهذا أشر الخلف، ولو قال: أفعل كذا إن شاء الله تعالى ومن نيته أن لا يفعل، كان كذبا وخلفا، قاله الأوزاعي. والنوع الثاني: أن يعد ومن نيته أن يفي، ثم يبدو له فيخلف من غير عذر له في الخلف. ذكر الزهري عن أبي هريرة، قال: من قال لصبي: تعال هاك تمرا، ثم لا يعطيه شيئا فهي كذبة. وقد اختلف العلماء في وجوب الوفاء بالوعد، فمنهم من أوجبه مطلقا، وذكر البخاري في ” صحيحه ” أن ابن أشوع قضى بالوعد، وهو قول طائفة الظاهر وغيرهم، منهم من أوجب الوفاء به إذا اقتضى تغريما للموعود، وهو المحكي عن مالك، وكثير من الفقهاء لا يوجبونه مطلقا. الخصلة الثالثة: إذا خاصم فجر ويعني بالفجور أن يخرج عن الحق عمدا حتى يصير الحق باطلا والباطل حقا، وهذا مما يدعو إليه الكذب، كما قال – ﷺ -: «إياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار». فإذا كان الرجل ذا قدرة عند الخصومة – سواء كانت خصومته في الدين أو في الدنيا – على أن ينتصر للباطل، ويخيل للسامع أنه حق، ويوهن الحق، ويخرجه في صورة الباطل، كان ذلك من أقبح المحرمات، ومن أخبث خصال النفاق. وفي ” سنن أبي داود ” عن ابن عمر، عن النبي – ﷺ -، قال: «من خاصم في باطل وهو يعلمه لم يزل في سخط الله حتى ينزع» . وفي رواية له أيضا: «ومن أعان على خصومة بظلم، فقد باء بغضب من الله». الخصلة الرابعة: إذا عاهد غدر، ولم يف بالعهد، وقد أمر الله بالوفاء بالعهد، فقال: {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا} [الإسراء: 34] [الإسراء: 34] ، وقال: {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا} [النحل: 91] [النحل: 91].. وفي “الصحيحين” عن ابن عمر عن النبي – ﷺ -، قال: «لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به» وفي رواية: «إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة، فيقال: ألا هذه غدرة فلان». الخصلة الخامسة: الخيانة في الأمانة، فإذا اؤتمن الرجل أمانة، فالواجب عليه أن يؤديها، كما قال تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} [النساء: 58] [النساء: 58] ، وقال النبي – ﷺ -: «أد الأمانة إلى من ائتمنك». قال ابن رجب: وحاصل الأمر أن النفاق الأصغر كله يرجع إلى اختلاف السريرة والعلانية، قاله الحسن. وقال الحسن أيضا: من النفاق اختلاف القلب واللسان، واختلاف السر والعلانية، واختلاف الدخول والخروج[3]. واختلف العلماء في هذا النوع من النفاق إلى قولين: المذهب الأول – هو نفاق العمل، قال بعض العلماء: إن الحديث إنما ورد في منافقي زمان النبى ﷺ الذين حدثوا بأنهم آمنوا فكذبوا، وائتمنوا على دينهم فخانوا، ووعدوا فى أمر الدين ونصره فأخلفوا. وهو قول عطاء بن أبى رباح فى تفسير الحديث، وإليه رجع الحسن البصري، وهو مذهب سعيد بن جبير وابن عمر وابن عباس[4]. وعلى هذا المعنى يحمل سؤال ابن عمر لحذيفة بن اليمان رضي الله عنهما لما قال له: هل تعلم في شيئا من النفاق؟ أي: من صفات المنافقين الفعلية، ووجه هذا: أن من كانت فيه هذه الخصال المذكورة، كان ساترا لها، ومظهرا لنقائضها؛ فصدق عليه اسم منافق[5]. والقول الثاني – يرى أن الحديث محمول على من غلبت عليه هذه الخصال، واتخذها عادة، ولم يبال بها؛ تهاونا واستخفافا بأمرها؛ فأي من كان هكذا، كان فاسد الاعتقاد غالبا، فيكون منافقا خالصا. الثالث – أن تلك الخصال كانت علامة المنافقين في زمانه؛ فإن أصحاب النبي – ﷺ – كانوا متجنبين لتلك الخصال؛ بحيث لا تقع منهم، ولا تعرف فيما بينهم؛ وبهذا قال ابن عباس وابن عمر، وروي عنهما في ذلك حديث، وهو أنهما أتيا النبي – ﷺ – فسألاه عن هذا الحديث، فضحك النبي – ﷺ – وقال: ما لكم ولهن، إنما خصصت بهن المنافقين، أنتم من ذلك برآء، وذكر الحديث بطوله القاضي عياض، قال: وإلى هذا صار كثير من التابعين والأئمة[6]. وبناء على هذا التفصيل في مذاهب العلماء في تأويل معنى الحديث الشريف فإن الملاحظ أن هذه الأقوال متقاربة جدا بل يمكن التوفيق بينها، فيقال: إن ارتباط الآيات الخمس المذكورة موجودة بالأصالة عند المنافق لأن لفظ النفاق يفيد وجود التستر على الخداع والكذب والغدر، وتلبسه فيها، مع أنه يظهر خلاف ما يبطن، ولكن لا يتعذر علينا وجود بعض هذه الخصال في المؤمن، فإذا وجد شيء من هذه الخصال في مؤمن فإنه لا يخرجه عن الملة ولكن يكون دليلا على ضعف الوازع الديني والإيمان عنده. قال النووي: إن هذه الخصال هي من خصال المنافقين، فإذا اتصف بها أحدٌ من المصدقين أشبه المنافق، فيطلق عليه اسم النفاق مجازًا، فإن النفاق هو إظهار ما يبطن خلافه، وهذا المعنى موجود في صاحب هذه الخصال؛ ويكون نفاقه في حق من حدثه ووعده وأْتمنه وخاصمه وعاهده من الناس، لا أنه منافق في الإسلام وهو يبطن الكفر. وقال النووي: هو المختار الصحيح عند المحققين.ما هو الفجور في الخصومة؟
الفجور هنا هو الميل عن الحق، والقول بالباطل، يقول أهل اللغة: أصل الفجور الميل عن القصد. والمراد هنا أن المنافق أو من يكون في حكمه من المسلمين فإنه إذا وقعت بينه وبين الناس نزاع في أمر دنيوي مثلا فجر في الخصومة. ويمكن تصوير الفجور في حالتين كما قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى: الأول: أن يجحد ما كان عليه من الحق والثاني: أن يدعي ما ليس له من الحق
[1] شرح صحيح البخارى لابن بطال (1/90).
[2] إكمال المعلم بفوائد مسلم (1/313).
[3] جامع العلوم والحكم (2/490).
[4] إكمال المعلم بفوائد مسلم (1/315).
[5] المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (1/250).
[6] المرجع السابق.
[7] شرح رياض الصالحين (6/167).