إن مسألة أسهم الشركات المختلطة (التي أصل نشاطها حلال، ولكن تتعامل مع البنوك الربوية إيداعا واقتراضا) من المسائل الاجتهادية التي اختلف فيها نظر المعاصرين، وتباينت اجتهاداتهم .. من محرم بالإطلاق، ومجيز بضوابط.
وهذان الاتجاهان نجدهما في أغلب المسائل المالية المعاصرة التي تشوبها شائبة الربا، اتجاه يرى التحريم تمسكا بظواهر الأدلة وما ورد فيها من التغليظ في أمر الربا والمشاركة فيه، وأخذا بمبدأ (سد الذرائع مقدم على جلب المصالح)، وسعيا لإجبار المستثمرين على ترك التعاملات المشتبهة .
واتجاه يرى الجواز بضوابط (كغلبة الحلال، والأخذ بالتطهير)، ويستدلون بقواعد مقاصدية وأصولية، مثل (الشريعة مبناها على رفع الحرج، يجوز تبعا ما لا يجوز استقلالا، الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة) .
والسبب في اختلاف النظر في أغلب المسائل يرجع إلى تعقد الحياة الاقتصادية المعاصرة، وإكراهات النظام الاقتصادي العالمي، وغلبة التعامل مع البنوك الربوية على مستوى الدول، وتبعية الاقتصادات الإسلامية لغيرها، وسيظل اختلاف النظر قائما حتى تتبنى الدول الاقتصاد الإسلامي مذهبا مطبقا.
لذا ينبغي أن نتفهم الخلاف المعاصر، ولا نشكك في النوايا، فمن أجاز بضوابط لا يعني إباحته للربا، ولكن نظر نظرة مقاصدية لظروف العصر وقواعد الشرع في رفع الحرج، ومن حرم لا يعني أنه يريد التضييق على الناس وإنما هذا هو مقتضى ظاهر أدلة الشرع، ولكل مجتهد نصيب.
ولكن السؤال المهم هنا، هل الشركات الوطنية الكبرى – كالنفط والغاز والألومنيوم – التي تملكها الدولة ثم تسعى لتخصيصها، بأن تطرح أسهمها للاكتتاب العام للمواطنين، هل هي كأي شركات خاصة مختلطة يجري فيها الخلاف السابق، أم أن هناك دائرة نظر أخرى ينبغي التنبه لها؟
يبدو لي أن الأمر هنا مختلف، لاسيما مع سعي بعض الدول إلى خصخصة أغلب الشركات الوطنية التي يقوم عليها الاقتصاد، وإشراك المواطنين في ملكيتها عن طريق الاكتتاب، نحن إذن أمام شركات مساهمة من نوع خاص، شركات تدير المال العام، فينبغي استصحاب خصوصية المال العام عند الحديث عن جواز المشاركة من عدمه.
خصوصية المال العام تكمن في أنه ملك مشاع لجميع الشعب، لا يختص به أحد دون أحد، بل ينبغي أن ينتفع به الجميع، وليس هذا المال العام ملكا للأحياء وحسب، بل حتى الأجيال التي ستأتي في المستقبل. فالمشاركة في هذا المال العام عن طريق الاكتتاب هو وسيلة لانتفاع الجميع به، وحفظه للأجيال المقبلة.
وزاوية النظر للمستقبل هنا تذكرنا باجتهاد الصحابة في زمن عمر رضي الله عنه حين اجتمع أمرهم على عدم تقسيم الأراضي المفتوحة كما هو ظاهر النص، خوفا ألا يكون للأجيال المقبلة نصيب في ذلك، أو ينحصر المال العام في أيدي بعض الناس، كما قال معاذ لعمر: “إن قسمتها صار الريع العظيم في أيدي القوم يبيدون فيصير إلى الرجل الواحد أو المرأة، ويأتي قوم يسدون من الإسلام مسدا ولا يجدون شيئا، فانظر أمرا يسع أولهم وآخرهم”، ولذا لما قيل لعمر اقسم بيننا الأرض أبى وقال: “ما لمن جاء بعدكم من المسلمين ؟” (أبو عبيد، كتاب الأموال).
ثم إن تحقيق هذا المقصد بحفظ المال العام لا يتم بتملك الأسهم بغرض المضاربة فيها، بل بتملك الأسهم ملكية دائمة، بغرض الاستثمار الطويل، والانتفاع بالأرباح السنوية، مما يعني انتساباً حقيقياً للشركة، ومراقبة لأدائها، وسعياً لتطويرها، مما لا يتحقق فيمن غرضه هو المضاربات الوقتية، هذا فضلا عما في المضاربات في الأسهم من محاذير شرعية، وآثار اقتصادية غير محمودة، ليس هذا مجال الحديث عنها.
الذي أراه أنّ مشاركة جميع المواطنين في هذا الاكتتاب، مع ملكية دائمة للأسهم هو مصلحة وطنية عامة معتبرة شرعاً، انتفاعا بالمال العام، وحفظا له للأجيال المقبلة، ومشاركة في الرقابة عليه، وسعياً – قدر المستطاع – لمنع أي سلوك لا يتوافق مع الشريعة في شركات تمسك بمفاصل الاقتصاد، وتؤثر في حياة الناس.
أما ما يشوبها من التعاملات مع البنوك الربوية فهذا بلاء مبين بلا شك، ولكنها ضرورة فرضها النظام المالي المعاصر، لا يتحمل إثمها إلا من أقرها ورضي بها من غير ضرورة، والتخلص من هذا البلاء لا يكون بترك أموال البلد بأيدي من لا يتورع عن الربا، بل بالتطهير من نسبة الربا، ثم السعي قدر المستطاع إلى إزالته عن طريق التأثير في قرارات الشركات بعد المشاركة فيها. لأن الامتناع عن المشاركة سيؤول بأهل الصلاح أن يجدوا أنفسهم بعد سنين غرباء في بلدهم، وتتحكم في حياتهم شركات لا يملكون أي شيء في التأثير على قرارتها، ولا الانتفاع منها كغيرهم.
أخيرا .. يبقى الموضوع وجهات نظر، واختلاف أفهام، إلى أن يأذن الله بأن يستقل المسلمون اقتصاديا، ويطهروا مجتمعاتهم من شوائب الربا.