ما أكثر ما تمر به أمتنا من أزمات تنخلع لها القلوب، وتذوب معها الأفئدة، وتتيه فيها العقول. وبقدر ما تكون هذه الأزمات مؤلمة، فإنها تكون أيضًا دالة على ما لدى الأمة من إمكانات وطاقات تجعلها محل طمع واعتداء من الآخرين؛ وبالتالي، فهذه الأزمات فرصة لمراجعة الذات، وبذل استجابات على قدر التحديات.. كما يحدث الآن في غزة. والتعامل مع تلك الأزمات يحتاج لمهارات تتصل بالاستعداد النفسي، وبطرق التفكير، وبالوسائل العملية.. وذلك على مستوى الفرد والأمة.
نشير هنا لبعضها مما يتصل أكثر بالفرد، حتى يدرك كل واحد منا أن له دورًا فيما يمر بأمته من أزمة، وأن التحرك الجماعي المطلوب من الدول والمجتمعات لا يعني إهمال دور الفرد.
1) لا تقع تحت ضغط اللحظة الراهنة:
أول هذه الأمور، ألا نقع نفسيًّا تحت ضغط الأزمات، بحيث تصيبنا باليأس والإحباط، ونفقد التركيز، ويأخذ الهلع منا مأخذه.. لأن هذا الخلل النفسي يؤدي بالضرورة إلى خلل في التفكير وفي التدبير العملي.
نعم الأزمات لها ضغطها النفسي، ومعايشتنا للحظة الأزمة تَزيد من وطأتها وثقلها علينا.. فأَنْ نقرأ، مثلاً، عن تدمير بغداد على يد المغول، أمر يختلف اختلافًا جذريًّا عن أن نعيش الحدث، ونكون في قلبه لا خارجه، ونصبح طرفًا فيه يعاني ويتألم لا شاهدًا عليه يراقب ويحلل.
فهذه المعايشة للحظة الأزمة، يجعل ثقلها على النفس أشد، وضغطها على الفكر أكبر؛ بحيث إن البعض قد يصيبه اليأس، ويتطرق الجزع إليه.
والقرآن الكريم لفتنا إلى أهمية التماسك النفسي وقت الشدائد والأزمات؛ فقال: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (آل عمران: 139)([1]).
فالتماسك النفسي لا يتحقق إلا بالإيمان، وبمعرفة سنن الله تعالى في التدافع بين أهل الحق وأهل الباطل.
2) تأمل الأزمة في ضوء محن التاريخ القاسية:
مما يخفف أيضًا من ثقل اللحظة الراهنة للأزمات، أن نتأمل هذه الأزمات في ضوء محن التاريخ القاسية السابقة.. حينها ندرك أن هذه الأزمة بكل قسوتها ليست غريبة عن ساحات التدافع بين الحق والباطل، بل ربما كانت أخف من غيرها من بعض الوجوه.. وبالتالي، نتخفف من الألم النفسي، ونعرف أنها بإذن الله تعالى أزمة ستمر كما مرَّ غيرها، وأن الشر الذي تحمله لا يخلو من خير كثير، سيظهر لنا عاجلاً أم آجلاً.
إن محن المغول والتتار، والهجمات الصليبية التي استمر لقرنين، شهدت أبشع الفظائع، وجاءت في ظروف حضارية متقهقرة؛ بحيث استغرقت مقاومتها والإفاقة منها سنوات وسنوات.. بعد أن سفكت دماء، وذبحت أطفالاً ونساءً، وانتهكت مقدسات، وصار العدو يسرح ويمرح في أرض المسلمين كأن لم يكن لها أهل عمروها وحافظوا عليها.. ثم إذا جاءت الانفراجة، استعاد المسلمين وعيهم وقوتهم، وأخرجوا أعداءهم من أرضهم، وكانوا أكثر رحمة وشفقة وإنسانية..
وما زال العصر الحديث شاهدًا على ما مر بنا من محن قاسية، وإن شاء الله نتجاوزها كما تجاوزنا غيرها..
3) تعاطف بقلبك وابذل ما تيسر لك:
لا تجعل موقفك من الأزمة ينحصر في الجانب النفسي، بحيث يتحمل هذا الجانب أكثر من الطاقة.. وإنما ترجمْ هذا الجانب، بما فيه من حزن وألم، إلى موقف عملي.. حينها تشعر بأنك قد تجاوزت طرف المشكلة من المعادلة، وانتقلت إلى طرف الحل.. وتستعيد توازنك النفسي حين تبذل ما يسهم في الانعتاق من الأزمة.
والترجمة للجانب النفسي والتعاطف القلبي إنما يكون ببذل ما تيسر من أسباب حلِّ الأزمة، ولو بالتبرع المالي، أو بالتعريف بالمشكلة ولفت الانتباه لخطورتها وأبعادها، فضلاً عن الدعاء بإلحاح.. فإن هذه الوسائل وغيرها تجعلك تنتقل من جانب المشاهِد إلى الفاعل، ومن المتألم بقلبه إلى الساعي بعمله.. ومن التفاعل السلبي، أي الاكتفاء بالحزن، إلى التفاعل الإيجابي، أي البحث عن حل.
4) أرسل دعواتك صباحًا ومساءً:
الدعاء أمر مطلوب من المسلم في جميع أحواله، فكيف بوقت الأزمات! وهذا الدعاء ليس حيلة العاجر، كما قد يتصور البعض، وإنما هو سبب مهم من أسباب النصر، وعنصر فاعل في المعادلة.
انظر إلى المؤمنين وهم يخوضون المعارك، لا يستغنون عن الدعاء.. ولا يُتصوَّر أن يكون الدعاء مِن نصيب مَن منعتهم الظروف عن المشاركة في الغزو، وحدهم: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (آل عمران: 146- 148).
جاء في تفسير المنار: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا}: أَيْ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ قَوْلٍ فِي تِلْكَ الْحَالِ، الَّتِي اعْتَصَمُوا فِيهَا بِالصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ، وَعِزَّةِ النَّفْسِ، وَشِدَّةِ الْبَأْسِ؛ إِلَّا ذَلِكَ الْقَوْلُ الْمُنْبِئُ عَنْ قُوَّةِ إِيمَانِهِمْ، وَصِدْقِ إِرَادَتِهِمْ؛ وَهُوَ الدُّعَاءُ بِأَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ بِجِهَادِهِمْ مَا كَانُوا أَلَمُّوا بِهِ مِنَ الذُّنُوبِ وَالتَّقْصِيرِ فِي إِقَامَةِ السُّنَنِ، أَوِ الْوُقُوفِ عِنْدَ مَا حَدَّدَتْهُ الشَّرَائِعُ. {وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا}: بِالْغُلُوِّ فِيهِ، وَتَجَاوُزِ الْحُدُودِ الَّتِي حَدَّدَتْهَا السُّنَنُ لَهُ. {وَثِبِّتْ أَقْدَامَنَا}: عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي هَدَيْتَنَا إِلَيْهِ حَتَّى لَا تُزَحْزِحَنَا عَنْهُ الْفِتَنُ، وَفِي مَوْقِفِ الْقِتَالِ، حَتَّى لَا يَعْرُونَا الْفَشَلُ. {وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}: بِكَ، الْجَاحِدِينَ لِآيَاتِكَ، الْمُعْتَدِينَ عَلَى أَهْلِ دِينِكَ، فَلَا يَشْكُرُونَ لَكَ نِعَمَكَ بِالتَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ، وَلَا بِفِعْلِ الْمَعْرُوفِ وَتَرْكِ الْمُنْكَرِ، وَلَا يُمَكِّنُونَ أَهْلَ الْحَقِّ مِنْ إِقَامَةِ مِيزَانِ الْقِسْطِ؛ فَإِنَّ النَّصْرَ بِيَدِكَ، تُؤْتِيهِ مَنْ تَشَاءُ بِمُقْتَضَى سُنَنِكَ، وَمِنْهَا أَنَّ الذُّنُوبَ وَالْإِسْرَافَ فِي الْأُمُورِ مِنْ أَسْبَابِ الْبَلَاءِ وَالْخِذْلَانِ، وَأَنَّ الطَّاعَةَ وَالثَّبَاتَ وَالِاسْتِقَامَةَ مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ وَالْفَلَاحِ. وَلِذَلِكَ سَأَلُوا اللهَ أَنْ يَمْحُوَ مِنْ نُفُوسِهِمْ أَثَرَ كُلِّ ذَنْبٍ وَإِسْرَافٍ، وَأَنْ يُوَفِّقَهُمْ إِلَى دَوَامِ الثَّبَاتِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الدُّعَاءَ وَالتَّوَجُّهَ إِلَى اللهِ تَعَالَى فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ مِمَّا يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ الْمُجَاهِدَ قُوَّةً وَعَزِيمَةً وَمُصَابَرَةً لِلشَّدَائِدِ([2]).
إذن، الدعاء ليس من نصيب من لم يشارك في الحرب، وحده.. وإنما هو سبب من أسباب النصر، وواجب على الجميع. وهو أمر له عظيم الأثر في استعادة التوازن النفسي، وفي تجديد الصلة بالله تعالى، والثقة في وعده ولطف ورحمته..
5) أحسن الظن بربك سبحانه:
إن إحسان الظن بالله تعالى، وتجديد هذ الإحسان عند الشدائد، لهو من أعظم ما يخفف عنا ألمها وشدتها، ويجعلنا على بصيرة من أمرنا.. وهل يبقى للمسلم شيء لو أساء الظن بربه؟!
وفي الحديث الصحيح عنْ أَبي هُريرةَ، رضي الله عنه أنَّ رسُولَ اللَّه ﷺ قالَ: “يقُولُ اللَّه تَعالى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعهُ إِذَا ذَكَرَني؛ فَإن ذَكرَني في نَفْسهِ، ذَكَرْتُهُ في نَفسي؛ وإنْ ذَكَرَني في ملإٍ، ذكَرتُهُ في ملإٍ خَيْرٍ منْهُمْ” (متفق عليه).
إن الظن بالله تعالى أنه صاحب الأمر والسلطان، وصاحب الحكمة المطلقة، والرحمة البالغة، والتدبير المحكم.. كلُّ أمري يجري بقضائه، ويسير بمشيئته، وينتهي إلى إرادته.. لا يَنِدُّ شيء عن سلطانه، ولا يَخرج أمر عن قهره..
فكيف، والأمر كذلك، يصيبنا يأس أو إحباط، أو ينال منا جزع أو هلع.. إن المؤمن “في جيش من يقينه، وحصن من ثقته بربه، يَثبت بهما في المزالق، ويدرأ بمنعتهما غائلات المهالك”، كما قال الإمام محمد عبده موصيًا أحد تلامذته([3]).
6) جدد الأمل في أمتك:
أمتنا هي الأمة الشاهدة على الأمم، وهي صاحبة الوحي الخاتم والرسالة التامة.. فكيف نفقد الأمل في قدرتها على استعادة ذاتها، ولملمة جراحها، والخروج من محنتها؟!
لقد مرت أمتنا بنكباتٍ لو أصابت غيرها من الأمم، ما كان لهم أن تقوم لهم قائمة مرة أخرى.. لكن أمتنا قامت وأفاقت كأن لم يصبها بالأمس شيء!
وهذا من رحمة الله تعالى بعباده.. فكما جعل فيها كتابًا شاهدًا محفوظًا، جعل على الناس أمة شاهدة.. نعم، هي ليست خارجة عن سنن التدافع والتداول والابتلاء؛ لكنها أقدر من غيرها على تجاوز محنتها، وأسرع من غيرها في الإفاقة.. كل ما في الأمر، أننا قد لا نشعر بذلك كما ينبغي، لأننا ما زلنا في طور التراجع الحضاري نغلبه ويغالبنا، وواقعون تحت ضغط الأزمات وثقلها..
أما كتاب التاريخ المفتوح الممتد، فيخبرنا عن أمتنا بخلاف ما نعاني الآن.. وعلينا أن نتأمل صفحات التاريخ جيدًا..
إن حضارة اليونان ذهبت ولم تقم مرة أخرى، ودول كثير قامت ثم بادت.. ومجتمعات أكثر لم يعد لها رجع صدى في ساحة الزمان.. أما أمتنا فإنها أمة ولود، تزيدها المحن صلابة، وتخرج من كل أزمة بانتصار، وتنتقل شعلتها الحضارية من موطن إلى آخر.. انطفأت في بغداد فأشرقت في دمشق، ثم توهجت في عاصمة البيزنطيين سابقًا: القسطنطينية..!
وما زال التاريخ تدور دوراته.. والحبل على الجرار.. والأيام دول.. فلا نيأس، ولا نترك نفوسنا وعقولنا لضغط الأزمات وثقل المحن..
لنستعدْ وعينا، ولنأخذْ بأزِمَّتنا.. ولندرك أن مع العسر يسرًا، وأن المحن لا تخلو من مِنَح.. لاسيما حين يتصل الأمر بأمتنا؛ الأمة الشاهدة، صاحبة الكتاب الخاتم المحفوظ..