لا يكاد يختلف الاحتفال بفرح عودة الحجيج من فرحة العيد بين أهاليهم وأقاربهم وأحبابهم، حيث تلوح ملامح السرور والفرح في أفق سماء الأحياء والقرى والمدن، ويهرول الناس من كل جهة لاستقبالهم بمختلف الطرق معبرين عن فرحهم العميق ومكرمين لهم بما منّ الله عليهم بأداء فريضة الحج، وإظهارا لصفاء المودة وحقيقة الأخوة الدينية وتعظيما لمكانة شعيرة الحج؛ الركن الخامس من أركان الإسلام، ويصبح الحاج بين قومه كمولود جديد خالصا من الذنوب ومقبلا على حياة جديدة، وهو كذلك إذا كان حجه حجا مقبولا وسعيا مشكورا.
والحافظ ابن رجب في كتابه “لطائف المعارف” عقد فصلا مفصلا في آخر وظائف شهر المحرم سماه “قدوم الحاج ص:61-68” وذكر فيه أمورا أشبه ما يكون كالوصية المهداة لمناسبة قدوم الحجاج على أهاليهم وأقاربهم، ومحصلها فيما يلي:
التذكير بجائزة الحج
استهل الحافظ ابن رجب هذا المبحث بحديث في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال:” من حج هذا البيت ولم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه.
ثم يقول الحافظ: مباني الإسلام الخمس كل واحد منها يكفر الذنوب والخطايا ويهدمها، ولا إله إلا الله لا تبقي ذنبا ولا يسبقها عمل، والصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر، والصدقة تطفىء الخطيئة كما يطفىء الماء النار، والحج الذي لا رفث فيه ولا فسوق يرجع صاحبه من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وقد استنبط معنى هذا الحديث من القرآن طائفة من العلماء وتأولوا قول الله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة: 203] بأن من قضى نسكه ورجع منه؛ فإن آثامه تسقط عنه إذا اتقى الله عز وجل في أداء نسكه، وسواء نفر في اليوم الأول من يومي النفر متعجلا أو متأخرا إلى اليوم الثاني.
وفي الصحيحين عن النبي ﷺ قال: “الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة” وفي صحيح مسلم عنه ﷺ قال: “الحج يهدم ما قبله” فالحج المبرور: يكفر السيئات ويوجب دخول الجنات.
سؤال الله تعالى التوفيق
ينبغى للحاج وأحبته أن يكثروا من الدعاء بأن يجعل الله تعالى حجه حجا مبرورا وسعيا مشكورا وذنبا مغفورا.
وقال الحافظ: فالحج المبرور ما اجتمع فيه أعمال البر مع اجتناب أعمال الإثم، فما دعا الحاج لنفسه ولا دعا له غيره بأحسن من الدعاء بأن يكون حجه مبرورا، ولهذا يشرع للحاج إذا فرغ من أعمال حجه وشرع في التحلل من إحرامه برمي جمرة العقبة يوم النحر أن يقول: اللهم اجعله حجا مبرورا وسعيا مشكورا وذنبا مغفورا، وروي ذلك عن ابن مسعود وابن عمر من قولهما. وكذلك يدعى للقادم من الحج بأن يجعل الله حجه مبرورا.
وكان من هدي السلف أنهم كانوا يدعون لمن رجع من حجه، ولما حج خالد الحذاء ورجع قال له أبو قلابة: بر العمل. معناه: جعل الله عملك مبرورا.
علامات الحج المبرور
للحج المبرور علامات لا تخفى، قيل للحسن: الحج المبرور جزاؤه الجنة؟ قال: آية ذلك: أن يرجع زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة، وقيل له: جزاء الحج المغفرة؟ قال: آية ذلك: أن يدع سيء ما كان عليه من العمل.
ثم مثل بالحج المبرور بقصة بعض السلف أنه: حج إبراهيم بن أدهم مع رفيقه الرجل الصالح الذي صحبه من بلخ، فرجع من حجه زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة، وخرج عن ملكه وماله وأهله وعشيرته وبلاده واختار بلاد الغربة وقنع بالأكل من عمل يده إما من الحصاد أو من نظارة البساتين.
استلام الحجر الأسود
قال بعض السلف: استلام الحجر الأسود هو أن لا يعود إلى معصية، يشير ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما: أن الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن استلمه وصافحه فكأنما صافح الله وقبل يمينه.
وقال عكرمة: الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فمن لم يدرك بيعة رسول الله ﷺ فمسح الركن فقد بايع الله ورسوله.
ولمن حج إذا استلم الحجر فإنه يجدد البيعة ويلتزم الوفاء بالعهد المتقدم – يعنى الميثاق التى أخذها الله على بنى آدم من اجتناب معاصيه والقيام بحقوقه سبحانه وتعالى-: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23]
الحر الكريم لا ينقض العهد القديم:
أحسبتم أن الليالي غيرت عقد الهوى لا كان من يتغير
يفنى الزمان وليس ننسى عهدكم وعلى محبتكم أموت وأحشر
إذا دعتك نفسك إلى نقض عهد مولاك فقل لها: معاذ الله: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف: 23] .
ومن رجع من الحج فليحافظ على ما عاهد الله عليه عند استلام الحجر، حج بعض من تقدم فبات بمكة مع قوم فدعته نفسه إلى معصية فسمع هاتفا يقول: ويلك ألم تحج؟ فعصمه الله من ذلك، قبيح بمن كمل القيام بمباني الإسلام الخمس أن يشرع في نقض ما يبني بالمعاصي.
أثر المعصية على قبول الحج
ما كل من حج قبل، ولا كل من صلى وصل، قيل لابن عمر ما أكثر الحاج؟ قال: ما أقلهم، وقال: الركب كبير والحاج قليل.
حج بعض المتقدمين فتوفي في الطريق في رجوعه، فدفنه أصحابه ونسوا الفأس في قبره فنبشوه ليأخذوا الفأس فإذا عنقه ويداه قد جمعت في حلقة الفأس فردوا عليه التراب، ثم رجعوا إلى أهله فسألوهم عن حاله؟ فقالوا صحب رجلا فأخذ ماله فكان يحج منه.
إذا حججت بمال أصله سحت فما حججت ولكن حجت العير
لا يقبل الله إلا كل صــــــــــالحة ما كل من حج بيت الله مبرور
من حجه مبرور قليل ولكن قد يوهب المسيء للمحسن، حج بعض المتقدمين فنام ليلة فرأى ملكين نزلا من السماء فقال أحدهما للأخر فكم حج العام؟ قال: ستمائة ألف فقال له: كم قبل منهم؟ قال: ستة قال: فاستيقظ الرجل وهو قلق مما رأى فرأى في الليلة الثانية كأنهما نزلا وأعادا القول وقال أحدهما: إن الله وهب لكل واحد من الستة مائة ألف.
وكان بعض السلف يقول في دعائه: اللهم إن لم تقبلني فهبني لمن شئت من خلقك.
طمع بعض الحجاج المتقدمين في تعويض تعبهم في الحج
من رد عليه عمله ولم يقبل منه فقد يعوض ما يعوض المصاب فيرحم بذلك.
قال بعض السلف في دعائه بعرفة: اللهم إن كنت لم تقبل حجي وتعبي
ونصبي فلا تحرمني أجر المصيبة على تركك القبول مني.
وقال آخر منهم: اللهم ارحمني فإن رحمتك قريب من المحسنين فإن لم أكن محسنا فقد قلت: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} [الأحزاب: 43] فإن لم أكن كذلك فأنا شيء وقد قلت: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156] فإن لم أكن شيئا فأنا مصاب برد عملي برد عملي وتعبي ونصبي فلا تحرمني ما وعدت المصاب من الرحمة.
أهمية الاستقامة بعد الطاعة
وعلامة قبول الطاعة: أن توصل بطاعة بعدها، وعلامة ردها: أن توصل بمعصية، ما أحسن الحسنة بعد الحسنة، وأقبح السيئة بعد الحسنة، ذنب بعد التوبة أقبح من سبعين قبلها، النكسة أصعب من المرض الأول، ما أوحش ذل المعصية بعد عز الطاعة، ارحموا عزيز قوم بالمعاصي ذل، وغني قوم بالذنوب افتقر، سلوا الله الثبات إلى الممات، وتعوذوا من الحور بعد الكور.
وكان الإمام أحمد يدعو ويقول: اللهم أعزني بطاعتك ولا تذلني بمعصيتك، وكان عامة دعاء إبراهيم بن أدهم: اللهم انقلني من ذل المعصية إلى عز الطاعة. في بعض الآثار الإلهية يقول الله تبارك وتعالى: أنا العزيز فمن أراد العز فليطع العزيز.
طلب الدعاء ممن كان عهده قريبا بالحج المبرور
الحاج إذا كان حجه مبرورا غفر له ولمن استغفر له، وشفع فيمن شفع فيه، وقد روي: “إن الله تعالى يقول لهم يوم عرفة: أفيضوا مغفورا لكم ولمن شفعتم فيه
فإذا رجع من الحج المبرور رجع وذنبه مغفور ودعاؤه مستجاب، فذلك يستحب تلقيه والسلام عليه وطلب الإستغفار منه.
وعن حبيب بن أبي ثابت قال: خرجت مع أبي نتلقى الحاج ونسلم عليهم قبل أن يتدنسوا.
وعن الحسن قال: إذا خرج الحاج فشيعوهم وزودوهم الدعاء، وإذا قفلوا فالقوهم وصافحوهم قبل أن يخالطوا الذنوب، فإن البركة في أيديهم.
قال عمر: يغفر للحاج ولمن استغفر له الحاج بقية ذي الحجة ومحرم وصفر وعشر من ربيع الأول.
تلقي الحجاج من الهدي النبوي
تلقي الحاج مسنون، وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن جعفر قال: كان النبي ﷺ إذا قدم من سفر تلقى بصبيان أهل المدينة، وإنه قدم من سفر فسق بي إليه فحملني بين يديه، ثم جيء بأحد ابني فاطمة فأردفه خلفه فأدخلنا المدينة ثلاثة على دابة
وفي المسند وصحيح الحاكم عن عائشة قالت: أقبلنا من مكة في حج أو عمرة فتلقانا غلمان من الأنصار، كانوا يتلقون أهاليهم إذا قدموا. وكذلك السلام على الحاج إذا قدم ومصافحته وطلب الدعاء منه.
قال ابن عباس: لو يعلم المقيمون ما للحاج عليهم من الحق لأتوهم حين يقدمون حتى يقيلوا رواحلهم لأنهم وفد الله في جميع الناس ما للمنقطع حيلة سوى التعلق بأذيال الواصلين.
قدوم الحاج على أهله تذكير بقدوم على الله تعالى
قدوم الحاج يذكر بالقدوم على الله تعالى، قدم مسافر فيما مضى على أهله فسروا به، وهناك امرأة من الصالحات فبكت وقالت: أذكرني هذا بقدومه القدوم على الله عز وجل فمن مسرور ومثبور.
قال بعض الملوك لأبي حازم: كيف القدوم على الله تعالى؟ فقال أبو حازم: أما قدوم الطائع على الله تعالى فكقدوم الغائب على أهله المشتاقين إليه وأما قدوم العاصي فكقدوم العبد الآبق على سيده الغضبان.
لعلك غضبان وقــــــلبي غافــــــــــــــل سلام على الدارين إن كنت راضيا