المؤلِّف والسياق : من الإشكالات الكبرى التي تعرفها الأمم والجماعات في التواصل الجمْعي الذي يروم التفاهم والعيش المشترك غيابُ منطق الحوار والإنصات والتبصر، الأمرُ الذي ينتهي بمخرجات التفكك والتعاكس والتوجس والريبة. ولأهمية هذا الموضوع أنجز الباحث محمد المرابط أستاذ مادة الفلسفة بطنجة باكورة أعماله التأليفية تحت وسْم “إشكالية الحوار: مدخل لبناء رؤية إسلامية حضاريةّ” الصادر سنة 2022 عن دار النشر (مفكرون) الدولية للنشر والتوزيع في حلة أنيقة من 186 صفحة.
لقد عرفتُ المؤلفَ الأستاذ محمد المرابط قارئا جيدا مهموما بالكتاب الورقي قبل الرقمي؛ ملامحُ البحث والنبوغ وهاجس الكتاب والتأليف بدأت تظهر عليه مبكرا منذ زمن الطلب الذي ما زال يعايشه إلى الآن وهو مقبلٌ على سلك الدكتوراه. نشر وحاضر وشارك في مناسبات عدة. ويؤشر هذا الإنجاز الذي بين أيدينا لهذا الباحث الشاب على مسار علمي طموح ذي آفاق مُشرعة على حقول بحثية متنوعة في الفكر الإسلامي والنقد الثقافي..
خطاب العنوان
أول لافت يثير انتباه القارئ لخطاب العنوان هو التركيب الإضافي “إشكالية الحوار”، فهل يا تُرى الحوار إشكال أو إشكالية أم هو فضيلة وقيمة؟ لا شك أن المؤلِّفَ اختار وانتقى مصطلح “الإشكالية” ذا الحمولة الثقيلة والعميقة للدلالة على أن الغياب الفعلي لفضيلة الحوار كأداة للتفاهم وتذويب الجليد وتدبير النزاع، صار إشكالية حقيقية أطلق عليها الباحثُ “إشكالية الحوار”، كأنه يريد أن ينبهَ قارئه في أول قراءة عابرة للعنوان أن الحوار المفتقَد والمرجوَّ صار أكثر إلحاحا وضرورة ليكون مدخلا لبناء رؤية إسلامية حضارية. وفي هذا التكثيف في خطاب العنوان تتجلى مظاهر المضمون والمعالجة التي انصبت على إبراز قيمة الحوار في الثقافة الإسلامية والرؤية الحضارية للأمة المؤطَّرة بمرجعية قرآنية قطعية الدلالة في بناء علائق إنسانية تواصلية مؤسَّسَة على البيان والتبيين والحوار والإنصات.
يقول المؤلف:” إن التفاعل الحضاري ظاهرة إنسانية وضرورة حياتية، ما يوجب علينا البحث عن وسائل التواصل الجادة والمثمرة، وليس هنالك أهم وأنجح من التواصل الحواري والتعارف بين الحضارات في العصر الحديث، باعتبارنا أشد احتياجا إلى الحوار الحضاري الجاد من أي وقت مضى. والحوار الحضاري يقوم أساسا على التعدد والاختلاف، ومن ثم الاعتراف والاحترام، الأمر الذي يدفعنا للبحث عن الأسس المشتركة للانطلاق والتفاهم والتعاون الحضاري”.
بنية الكتاب
اختار المؤلف أن يُصدر كتابه بتقديمٍ لأستاذيْه: الدكتور عبد اللطيف شهبون أستاذ سابق للأدب المغربي والأندلسي بجامعة عبد الملك السعدي بتطوان، والدكتور سعيد بوعصاب أستاذ الدراسات القرآنية بجامعة ابن زهر بالسمارة. وتكوَّن هيكل البحث من مقدمة المؤلف (ص12- 14) وأربعة فصول تبرِزُ معالمَها المباحثُ والمطالبُ التي انتُظِمَت في انسجام وترابط شكلا ومضمونا. وانتهت بمقترحات لتفعيل الحوار الحضاري قابلةٍ للتطبيق والتنزيل إذا صدقت النيات وتوحَّدت المقاصد الكبرى..
بسطٌ لمضامين المتن
إن الباحثَ اختار موضوعا لاشك أنه لامس من خلال معايشته لحركية التأليف والصراع الأيديولوجي وتشظي الواقع العربي الإسلامي، قلتُ اختار موضوعا آنيا يستمد قوةَ حضوره والتأليف فيه من فرضية القراءة الواعية والمتبصرة وفرضية أزمة الواقع الإسلامي وخاصة مع مأساة غزة الأبية فرَّج الله نكبتها. لهذا أرى أنه كان موفقا في إعادة الاعتبار إلى موضوع الحوار كمفتاح للتواصل البشري ومعالجة النزاعات وحل الأزمات؛ من خلال أرقى قيمة في التواصل والتعايش قيمة الحوار.
وقد توافقت المقدمة مع ما انتهت به الخلاصات أنَّ” أهمَّ هذه الحلول الحوارُ، فبه تتقلصُ هوة الصراع والعداء، وعن طريقه يُتوصلُ إلى دائرة المشترك الإنساني، والاعتراف بالآخر، وكل هذا يُفضي إلى حصول التعاون والتضامن والتعايش بين مختلِف الأجناس والأعراق والديانات، ما يعني أن الحوارَ ضرورة إنسانية، وحاجة حياتية”.
لقد اعتمد المؤلف في معالجة الكلمات المفاتيح على المادة اللغوية للجذر اللغوي للكلمة بدءًا من مادة “ح و ر” التي استخلص منها المعاني الأربعة: شدة البياض ـ الرجوع ـ الدوران ـ التجاوب، لينتقل إلى دلالة الاصطلاح من خلال المنظور التداولي الإسلامي الذي يتمثل في قيمة الاعتراف بالخطأ وإعلاء شأن الحقيقة والحق في غياب الذاتيةِ والأنا المتضخمة والمتعالية، والابتعاد عن “الجدل” الذي يقوم على المخاصمة والتنازع، على حين إن الحوار مبني على التسامح والصفاء..
ثم انتقل الباحث إلى تأصيل فلسفة الحوار من خلال النظرة الإسلامية مستلهما بعض أفكار طه عبد الرحمن وعبد العزيز التويجري ويوسف القرضاوي وغيرهم. وهكذا فصل القول في أبعاد الحوار في الإسلام وأهدافه السامية المختزلة في الحقل التالي: التعارف ـ التعايش السلمي ـ التعايش الدولي ـ الإقناع ـ إيجابيات الآخر ـ تعزيز القيم ـ القاسم المشترك ـ تصويب المغالطات ـ تجاوز الانغلاق…” وفي هذا المجال يقف القارئ على قبسات من طبيعة السرد القرآني لوضعيات تواصلية : حوارية أو حجاجية متباينة بين طرفي الحوار، وفي الغالب تكون بين متناقضين، الشرك والتوحيد.
ثم أتبع ذلك بأثر هذه المرجعية في واقع المسلمين، فسجَّل بأسف غياب التشبع بقيم القرآن في التحاور والمناظرة، وبناء العلاقات الجامعة بين الأمة الواحدة بلْهَ مع المخالِف من خارج المنظومة والعقيدة، مع اعتبار أن هذا المخالِفَ هو أيضا يعاني من مأزق الأنا وهَوَسِ التفرد بالحق والحقيقة، وإنكار حق الآخر. وهنا أورد ما ذكره عبد المجيد الصغير في سياق حدثيه عن الحوار الإسلامي المسيحي:” أعتقد أن الأوساط المسيحية تضرب عرض الحائط بكل قيم الحوار حينما تعلن بعد أكثر من عشر سنوات من يبان الفاتيكان… أن غرضها إنما هو بالتحديد إعادة التخطيط (لعملية تنصير المسلمين) وابتكار مختلِف الأساليب الجديدة الممكنة في سبيل ذلك”.
ومع هذه التحديات والمعيقات آثر المؤلفُ التطرق لموضوع “الحوار” في علاقته بالواقع المعيش باعتبار تناقض هذا الوقع وإشكالاته المستجدَّة والطارئة، إذ وجبَ على “أهل الملة” كما يقول الأستاذ محمد المرابط أن تراعي” التجددَ أو التغير الطارئ على المجتمع، في جميع مناحي حياته ومتطلباته وتطلعاته الثقافية والاقتصادية والسياسية، فالعلاقات بين المسلمين وغيرهم في وقتنا الحالي، لم تعد كما كانت قبلُ، بل اختلفت اليوم باختلاف الوضع (الذاتي والغيري) والواقع، الأمر الذي يفرض التعامل بالتعاون والتسامح، إلا مع الظالمين.
إن الحوار رافدٌ أساسٌ من روافد “التواصل” لذلك فصَّل المؤلف في مطلبٍ فريد “إشكالية الحوار والتواصل”، ذلك أن التواصل ما كان له أن يتم بين بني البشر إلا بإحدى الأدوات التالية: المحادثة، والمناقشة، والمناظرة، والحوار. ويعتبر هذا الأخير” شكلاً من أشكال الوجود الإنساني، وليس فقط مجرد وسيلة للتواصل”.
ونظرا لما يعتور العلاقات البشرية من اضطرابات؛ فإن المؤلفَ قاربَ إشكالات مرتبطة بالمعيقات التواصلية، سواء ما ارتبط بالمرسِل أو المرسَل إليه أو الرسالة، أو البيئة. وتعتبر الأسرةُ المحضن الأول والطبيعي لبناء شخصية متشبعة بالمهارات والقيم التواصلية، فمتى ما تواجدت البيئة التواصلية داخل البيت، وسلكت مسلكا لغويا طبيعيا يُنمي في الأطفال والناشئة المهارات التواصلية التي تراعي الحدث التواصلي ولغة التخاطب والأساليب المراعية للمقامات، استطعنا أن نُساهم في صناعة جيل متشبع بالرؤية الإسلامية الحضارية، وهي الفكرة المحورية التي حاول المؤلف أن يُبلورها في عمله هذا.
هذه الرؤية التي تتجلى في الحوار الديني وضرورته، والمتسلح بالقواعد والضوابط القرآنية في المحاججة والمناظرة بحثا عن المشترك الإنساني، والقيم الإيجابية الموحِّدَة. وتتجلى أيضا في الحوار الثقافي والحوار الحضاري اللذيْن يجب أن تتضافر كل جهود الدول والمؤسسات والكيانات والأعلام من أجل تفعيل وتنشيط هذه الأدوار البناءة والتواقة للعيش المشترك في احترام تام للخصوصيات الثقافية للأمم، يقول عز وجل: { لكم دينكم ولي دين } (الكافرون :6).
ختمٌ
إن هذا السِّفر إضافة نوعية للمكتبة الفكرية العربية الإسلامية ومرجع إضافي للباحثين في أدب الحوار وفقه التدافع، ساهم فيه صاحبه في إرساء ثقافة الاختلاف والاعتراف. وتوفَّق إلى حد كبير في انتقاء شواهده ومنقولاته معتمدًا على مفكرين مسلمين وغربيين، نتمنى له التوفيق في باقي مشاريعه الفكرية.