جاءت هذه الآية [ولا تعثوا في الأرض مفسدينَ] متكررة في سورة البقرة، أو الأعراف (74)، أو هود (85) أو الشعراء (183)، أو العنكبوت (36).
قال الطبري: يعني بقوله: (لا تعثوا) لا تطغوا، ولا تسعوا في الأرض مفسدين. قال أبو العالية: لا تسعوا في الأرض فسادا. وقال ابن زيد: لا تعثوا: لا تطغوا. وقال قتادة: لا تسيروا في الأرض مفسدين.
وأصل ” العَثَا ” شدة الإفساد، بل هو أشد الإفساد. يقال منه: عَثِيَ فلان في الأرض” -إذا تجاوز في الإفساد إلى غايته-“يعثى عثا” مقصور، وللجماعة: هم يعثون. وفيه لغتان أخريان، إحداهما: “عثا يعثو عُثُوّا “. ومن قرأها بهذه اللغة، فإنه ينبغي له أن يضم الثاء من”يعثو”، ولا أعلم قارئا يقتدى بقراءته قرأ به.
وقال الرازي: لا تتمادوا في الفساد في حالة إفسادكم لأنهم كانوا متمادين فيه، والمقصود منه ما جرت العادة بين الناس من التشاجر والتنازع في الماء عند اشتداد الحاجة إليه، فكأنه تعالى قال: إن وقع التنازع بسبب ذلك الماء فلا تبالغوا في التنازع. وقد جاء ذكر الماء قبل ذلك في الآية نفسها: [قَدۡ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٖ مَّشۡرَبَهُمۡۖ كُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ مِن رِّزۡقِ ٱللَّهِ وَلَا تَعۡثَوۡاْ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُفۡسِدِينَ] [البقرة: 60]
وقال القرطبي: عث يعث في المضاعف: أفسد ومنه العثة وهي السوسة التي تلحس الصوف، و(مفسدين) حال وتكرر المعنى تأكيدا لاختلاف اللفظ.
قال أبو حيان: لا تتظالموا الشرب فيما بينكم لأن كل سبط (قبيلة أو مجموعة) منكم قد جعل له شرب معلوم. وقال بعضهم: لا تؤخروا الغذاء فكانوا إذا أخروه فسد. وقيل: لا تخالطوا المفسدين. وهذه الأقوال وأمثالها قريب بعضها من بعض.
وفي موضع آخر قال أبو حيان وهو يبين أنواع المنن والمنافع التي أودعها الله تعالى في هذه الأرض، وكان حقيقا بها عدم الإفساد فيها والتفريط في صلاحها ونضارتها، وأن الشارع الحكيم نهى عن الإفساد فيها للدلالة على النهي عن السبب، قال أبو حيان: النهي عن الإفساد في الأرض من باب النهي عن المسبب، والمراد النهي عن السبب. فمتعلق النهي حقيقة هو مصافاة الكفار وممالأتهم على المؤمنين بإفشاء السر إليهم وتسليطهم عليهم، لإفضاء ذلك إلى هيج الفتن المؤدي إلى الإفساد في الأرض، فجعل ما رتب على المنهي عنه حقيقة منهيا عنه لفظا. والنهي عن الإفساد في الأرض هنا كالنهي في قوله تعالى: ولا تعثوا في الأرض مفسدين .
وليس ذكر الأرض لمجرد التوكيد بل في ذلك تنبيه على أن هذا المحل الذي فيه نشأتكم وتصرفكم، ومنه مادة حياتكم، وهو سترة أمواتكم، جدير أن لا يفسد فيه، إذ محل الإصلاح لا ينبغي أن يجعل محل الإفساد. ألا ترى إلى قوله تعالى [وَلَا تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ بَعۡدَ إِصۡلَٰحِهَا ] [الأعراف: 56]
وقال تعالى: [هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ ذَلُولٗا فَٱمۡشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزۡقِهِۦۖ وَإِلَيۡهِ ٱلنُّشُورُ] [الملك: 15] ، وقال تعالى: [وَٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ ذَٰلِكَ دَحَىٰهَآ* أَخۡرَجَ مِنۡهَا مَآءَهَا وَمَرۡعَىٰهَا* وَٱلۡجِبَالَ أَرۡسَىٰهَا* مَتَٰعٗا لَّكُمۡ وَلِأَنۡعَٰمِكُمۡ] [النازعات: 30-33] ، الآية. إلى غير ذلك من الآيات المنبهة على الامتنان علينا بالأرض، وما أودع الله فيها من المنافع التي لا تكاد تحصى.
ويقول الدكتور رفيق يونس المصري معلقا بعد سوق أقوال المفسرين في بيان (ولا تعثوا …. مفسدين)، مختارا ما ذهب إليه القرطبي أن الكلمتين بمعنى واحد مع اختلاف في اللفظ، قال: ولعل تقدير الآية في نظري: ولا تفسدوا في الأرض إفسادا أيَّ إفساد! للدلالة على منع الفساد مطلقا.
ثم قال: وربما لا يوجد مثل هذا الاستعمال القرآني في لغة العرب، ولعل علماء اللغة والتفسير أرادوا:
– أن اللفظ إذا صرف عن معناه إلى معنى آخر مناسب صح الاستعمال لاختلاف المعنى بينهما ، ولو كان الاختلاف في الدرجة فقط.
– أو إذا اختلف اللفظ ولو اتحد المعنى فكذلك يصح الاستعمال كما ورد في تفسير القرطبي.