إذا كانت الحياة آية من آيات الله، فالموتُ كذلك آيةٌ أخرى تضادُ الحياة، ولـكنّها لا تقلُّ عنها عجباً، قال تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 28]. والتفكُّر في هـذه الآية تفكُّر في خلق مِن خَلْق الله وعجائبه، الدالّ على عظيم قدرته، وعجيبِ أمره، وإنّ لتذكرِ الموتِ أثرٌ كبيرٌ في إصلاح النفوس وتهذيبها، ذلك أن النفوسَ تؤثر الدنيا وملذّاتها، وتطمعُ في البقاء المديد في هـذه الحياة، وقد تهفو إلى الذنوب والمعاصي، وقد تقصّر في الطاعات، فإذا كان الموتُ دائماً على بال العبد، فإنّه يصغّر الدنيا في عينه، ويجعله يسعى في إصلاح نفسه، وتقويم المعوجّ من أمره، قال رسول الله ﷺ: «أكثروا ذكرَ هاذِمِ اللذَّاتِ: الموتِ، فإنَّه لم يذكره في ضيقٍ مِنَ العيشِ إلاّ وَسّعَهُ عليه، ولا ذكره في سَعَةٍ إلا ضيّقَها». وقال العلماء: تذكر الموت يردعُ عن المعاصي، ويليّنُ القلبَ القاسي، ويذهبُ الفرحَ بالدنيا، ويهوّن المصائبَ.
الموت حقٌ
إنّ الموتَ مرحلةٌ يمرُّ بها الإنسانُ، ومنزلةٌ يَرِدُها، وحقيقةٌ لا يتخطّاها، وكأسٌ يتجرَّعها، ومنهلٌ يستقي منه، وللموت حكمٌ كثيرة، ففيه يتجلى كمال قدرة الله الخالصة سبحانه، وعظيم حكمته في تصريف أطوار الخلق: فهو الذي أنشأ هـذا الإنسان من عدم، ثم أوجده طوراً بعد طور، وخَلْقاً بعد خَلْقِ، حتى صار بشراً سوياً، يسمع ويبصر، ويعقل ويتكلَّم، ويتحرك ويسالم ويخاصم، ويتزاوج ويتناسل، يعيشُ على أرضِ الله، وينالُ من رزق الله، ثم بعد ذلك كلِّه يميتُه الله تعالى، فلا يأكلُ، ولا يشربُ، ولا يسمعُ، ولا يبصرُ، ولا يعقلُ، ولا يتحرّكُ، فيزولُ بعدَ بقاءٍ، وينتفي بعد وجودٍ، وكلُّ ذلك بتصريفِ الله وقدرته، وبالغ حكمته في خلق الأمور المختلفة، والأحوال المتضادّة.
ومن حكم الموت أن الله تعالى خلق الموت والحياة ابتلاءً لعباده واختباراً لهم ليعلمَ من يطيعه ممن يعصيه: قال سبحانه: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ} [الملك: 2]. وأنه تعالى لم يخلق البشر في الدنيا على خلقة قابلة للدوام: بل جعلهم خلائفَ في الأرض، يخلفُ بعضُهم بعضاً، فلو أبقاهم لفاتتِ المصلحةُ والحكمةُ في جعلهم خلائف.
وفي الموت نعمٌ عظيمةٌ لا تتأتى للناس إلا به، فلولا الموت لما هنأ لهم العيش، ولا طابَ في هـذه الأرض، ولا وسعتهم الأرزاقُ، ولضاقتْ عليهم المساكنُ والمدنُ، والأسواقُ والطرقاتُ.
والموت يخلّص المؤمن من نكد هـذه الحياة التي حشيت بالغصص وحفّت بالمكاره والآلام الباطنة والظاهرة، إلى نعيم لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، وسعادة لا تنتهي، في ظلال وارفة، وبساتين مؤنقة، وجنات دائمة، مع خيرة الرفقاء، وأطيب الأصفياء.
وبالموت تصل النفس إلى اليقين، وتتعرّف على حقيقتها من حيث إنّها مخلوقةٌ للخالق سبحانه، وإنّها مخلوقةٌ لغاية.
وإنّ ساعةَ الموتِ أخطرُ ساعةٍ في رحلة الإنسان الطويلة إلى ما لا نهاية، لأنها بداية الانتقال من عالم الشهادة المحسوس، الذي عرفه الإنسان وألفه، إلى عالمٍ كان غيباً في الحياة الأولى، ويصيرُ محسوساً في الحياة الجديدة، التي تبدأُ بالموتِ الجسدي، ليحدث للإنسان في عالم البرزخ لأول مرة عوالمُ تختلف كل الاختلاف عن عوالم الدنيا التي عايشَها، وائتلف أو تنافر معها.
حياة البرزخ .. حياة بين حياتين
وهنا تبدأ حيـاة البـرزخ، والبرزخ اسمُ ما بينَ الدُّنيا والآخرة من وقتِ الموت إلى البعثِ، قال تعالى: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 100]. والبرزخ هو الحاجز بين الشيئين بحيث يمنع من اختلاطهما، يقول سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا} [الفرقان: 53]، جعل بينهما حاجزاً. فهناك حاجز بينهم وبين الآخرة، إنها حياة أهل القبور، حياة ما بعد الموت، حياة البرزخ بين الدنيا والآخرة، تستقر فيها أرواح الموتى، وهي عالم روحاني لا يقاس ما فيه على عالم الدنيا المادي، فلا تحكمه قوانين المكان والزمان والمادة؛ بل هو عالم آخر له أحواله وأسراره.
وجاءت النصوصُ بإثبات الحياة في البرزخ، وهي حياةٌ تخالِفُ الحياة المعهودة في الدنيا، فالله سبحانه جعل الدورَ ثلاثاً: دارَ الدنيا، ودارَ البرزخ، ودارَ القرار، وجعل لكلّ دارٍ أحكاماً تختصُّ بها، وركّبَ هـذا الإنسانَ من بدن ونفس، وجعل أحكام دار الدنيا على الأبدان والأرواح تبعاً لها، وجعل أحكام البرزخِ على الأرواحِ والأبدان تبعاً لها، فإذا كان يومُ حشرِ الأجساد، وقيام الناس من قبورهم، صار الحكم والنعيمُ والعذابُ على الأرواح والأجساد ظاهراً أبدياً أصلاً.
القبر أول منازل الحياة الآخرة
تبدأ حياة البرزخ مع نزول الإنسان إلى قبره، فالقبر أولُ منازل الآخرة، قال رسول الله ﷺ: «إن القبرَ أولُ منزلٍ من منازلِ الآخرة، فإن نجا منه، فما بعدَه أيسرُ منه، وإنْ لم ينجُ منه فما بعدَه أشدُّ منه»، وقال رسول الله: «ما رأيتُ منظراً قطُّ إلا القبرُ أفظعُ منه».
ومما ينبغي أن يُعلم أنَّ عذابَ القبر ونعيمه، اسمٌ لعذاب البرزخ ونعيمِه، وهو ما بين الدنيا والآخرة، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ** لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 99 ـ 100].
ونعيمُ القبر أو عذابُه ينالُ مَنْ دُفَنَ ومَنْ لم يُدْفَنْ، ومن أكلته السباعُ أو مُزّقَ جسدُه، أو أُحْرِقَ وذُرَّ رمادُ جسمهِ في البرِّ أو البحر، أو منْ كانَ في ثلاّجاتِ الموتى فترات طويلة، أو مَنْ أُغرق أو صُلِبَ، أو كلُّ من لم يُدْفَنْ بحالٍ من الأحوالِ، فإنّه يناله عذابُ القبرِ أو نعيمُه، وأنه يحيا حياةً برزخيةً حتّى يوم القيامة.
ولعذاب القبر ونعيمه حكمُ عديدة ومنها: إظهارُ فضلِ الله تعالى على عباده المؤمنين الصالحين في تنعيمهم في الحياة البرزخية، وإذلال وتعذيب المكذبين العاصين والعياذ بالله. وإظهارُ قدرة الله تعالى في تعذيب العصاة والكافرين، وتنعيم المؤمنين الصّادقين في القبر دون أن يشعرَ بذلك سائرُ البشر. وإنَّ المكلّفين عندما يعلمون أنّ هناك عذاباً في القبرِ أو في الحياة البرزخية، فإنَّ ذلك يكونُ رادعاً ومانعاً لهم عمّا يسوءُ ويشينُ فعلُه في الآخرة.
ومنها أيضاً التحذيرُ من بعضِ الذنوب والمعاصي، والتي يكونُ لها عقوبات خاصة تناسِبُها، كعدم التنزّه من البولِ، والنميمةِ وغير ذلك. كما أن العذاب في القبر وفي الحياة البرزخية قد يكون مكفِّراً لبعضِ الذنوب والمعاصي التي ألمَّ بها العبدُ في الحياة الدنيا، فيأتي يومَ القيامةِ ولا ذنبَ له.
هذا هو الموت وهذه حياة البرزخ، ولا بد لكل إنسان في كل زمان ومكان أن يموت ثم يمر بمرحلة الحياة البرزخية، فلا مفر من ذلك، وهذا يستوجب الإيمان بتلك الحياة وعذابها ونعيمها، والإعداد لها بالدعاء والعمل الصالح والطاعات. وقد ظهر في عصرنا الذي نعيش فئات من الناس يحاولون إنكار حياة البرزخ وعذابه -تحديداً-، مع العلم أن هذه المسألة مما اتفق عليها المسلمون إذ أن أدلة نعيم القبر وعذابه ظاهرة بينة في القرآن والسنة، والمؤمن الحق هو الذي يؤمن بما جاء في كتاب الله وسنة رسوله ويعمل بمقتضى هذا الإيمان.