يقول الله تعالى : { قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا ۖ إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ والعاقبة للمتقين (الأعراف: 128) يتمايز الناس في المواقف فترى شخص يقدر لرجله قبل الخطو موضعها، وينظر لنتائج خطواته قبل أن يخطوها. وآخر لا يفكر ولا يريد أن يشغل نفسه بنتائج تصرفاته ولسان حاله غدا بظهر الغيب واليوم لي . وقسم ثالث يستعجل الغد فيريد أن يرى ثمرة عمله الآن وليس بعد ساعة. واستعجال الإنسان للغد المشرق والنتائج التي يحلم بها طبيعة فيه ،فقد قال قوم موسى لنبيهم عليه السلام { أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 129] إنهم يستشعرون ثقل الأيام والليالي ويستبطئون الغد الذي تكون كلمتهم فيه هي العليا، ينبههم موسى -عليه السلام – إلى أنهم في هذه اللحظات التي يتمنون أن تمر سريعا في حالة اختبار كبير، وعندما يهلك الله تعالى عدوهم وتكون الكلمة لهم سيدخلون في اختبار آخر له ثقله أيضا وصعوباته.
ولم يكن ذلك من قوم موسى وحدهم بل حدث من صحابة النبي ﷺ ، عَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ، قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الكَعْبَةِ، قُلْنَا لَهُ: أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا، أَلاَ تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟ قَالَ: «كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ»
اللحظة التي ترى فيها الباطل منتفخا منتفشا يفاخر بما يحقق من نتائج حتى ولو كانت مكذوبة، يظن أنه سيخرق الأرض أو سيبلغ الجبال طولا، لحظة تستحق التأمل وتحتاج إلى ثبات ويقين ونظر إلى التاريخ والواقع، فإن الأيام دول والمعارك جولات وكم من نصر كبيرا تحول في لحظاته الأخيرة إلى هزيمة ساحقة، وكم من هزائم مؤلمة تحولت إلى نصر يقف عنده التاريخ بإعجاب وإكبار، ومن يضحك أخيرا يضحك كثيرا.
إن الذي ينتظر النتائج الفورية لما يقدم من عمل ومن تضحية واهم، ذلك لأن لله تعالى سننه التي تحكم الإنسان والدنيا والله تعالى لا يعجل بعجلة أحدكم.
والذين يزرعون اليوم ويحصدون غدا هم المجاهدون وليس ذلك في الدنيا بل في الآخرة ،في ليلة الإسراء مر النبي ﷺ (على قوم يزرعون في يوم ويحصدون في يوم ، كلما حصدوا عاد كما كان ، فقال : يا جبريل : من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء المجاهدون في سبيل الله تضاعف لهم الحسنة بسبع مائة ضعف ، وما أنفقوا من شيء فهو يخلفه)
وفي سيرنا للغايات الشريفة وفي سعينا لتحقيق الأهداف النبيلة وأثناء عملنا للظفر بالعاقبة الحسنة قد نفقد أشياء، البعض يعتبرها خسائر وآخرون يرونها جزء من الثمن ،فما من شيء إلا وله ثمن يدفعه الإنسان من دينه أو من دنياه لينال مقابلا أعظم، وقد سمى النبي ﷺ عملية المقايضة التي تمت بين صهيب رضي الله عنه وبين كفار قريش، بيعا حين بادلهم ماله الذي ربحه بالعرق والجهد الضخم الذي بذله عبر السنين، مقابل أن يخلوا سبيله لكي يهاجر إلى المدينة.
وهذه الأثمان التي تدفع أمر مقرر عند أتباع الديانات السماوية ففي حوار هرقل مع أبي سفيان قال هرقل(وَسَأَلْتُكَ: هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ فَزَعَمْتَ أَنَّكُمْ قَاتَلْتُمُوهُ، فَتَكُونُ الحَرْبُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ سِجَالًا يَنَالُ مِنْكُمْ وَتَنَالُونَ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى ثُمَّ تَكُونُ لَهُمُ العَاقِبَةُ.
وفي ساعة الثمن الذي يدفع لكي نصل إلى العاقبة الحسنة تتألم النفس ويحزن القلب، لكن الإيمان يخفف من هول الصدمة ويفزع المؤمن لربه لكي ينزل عليه الصبر والسكينة والقوة التي يعبر بها هذه الأزمة، في غزوة أحد دفع المسلمون ثمنا باهظا وقدموا سبعين شهيدا بكى النبي ﷺ حتى شهق (ولما رأى ما [أصاب]حمزة- عمه وأخيه من الرضاعة- اشتد حزنه، وجاءت عمته صفية تريد أن تنظر أخاها حمزة، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم ابنها الزبير أن يصرفها، لكي لا ترى ما بأخيها، فقالت: ولم؟ وقد بلغني أن قد مٌثّل بأخي، وذلك في الله، فما أرضانا بما كان من ذلك، لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله. فأتته، فنظرت إليه، فصلت عليه- دعت له- واسترجعت واستغفرت له. .قال ابن مسعود: ما رأينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم باكيا قط أشد من بكائه على حمزة بن عبد المطلب، وضعه في القبلة، ثم وقف على جنازته، وانتحب حتى نشع من البكاء والنشع:الشهيق. وكان منظر الشهداء مريعا جدا يفتت الأكباد) .
ولنقرأ وقائع هذه الحادثة كما هي عند الإمام أحمد في مسنده (لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَانْكَفَأَ الْمُشْرِكُونَ، قَالَ: رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَوُوا حَتَّى أُثْنِيَ عَلَى رَبِّي، فَصَارُوا خَلْفَهُ صُفُوفًا، فَقَالَ: ” اللهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ، اللهُمَّ لَا قَابِضَ لِمَا بَسَطْتَ، وَلَا بَاسِطَ لِمَا قَبَضْتَ، وَلَا هَادِيَ لِمَا أَضْلَلْتَ، وَلَا مُضِلَّ لِمَنْ هَدَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُقَرِّبَ لِمَا بَاعَدْتَ، وَلَا مُبَاعِدَ لِمَا قَرَّبْتَ، اللهُمَّ ابْسُطْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِكَ وَرَحْمَتِكَ وَفَضْلِكَ وَرِزْقِكَ، اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ النَّعِيمَ الْمُقِيمَ الَّذِي لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ، اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ النَّعِيمَ يَوْمَ الْعَيْلَةِ وَالْأَمْنَ يَوْمَ الْخَوْفِ، اللهُمَّ إِنِّي عَائِذٌ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا أَعْطَيْتَنَا وَشَرِّ مَا مَنَعْتَ، اللهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا، وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الْكُفْرَ، وَالْفُسُوقَ، وَالْعِصْيَانَ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ، اللهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، وَأَحْيِنَا مُسْلِمِينَ، وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ غَيْرَ خَزَايَا وَلَا مَفْتُونِينَ، اللهُمَّ قَاتِلِ الْكَفَرَةَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ رُسُلَكَ، وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِكَ، وَاجْعَلْ عَلَيْهِمْ رِجْزَكَ وَعَذَابَكَ، اللهُمَّ قَاتِلِ الْكَفَرَةَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَهَ الْحَقِّ ).
يصف الشيخ محمد الغزالي – رحمه الله – ما في هذه الكلمات من عاطفة صادقة ويقين يملأ القلب ويبين لماذا يثني النبي ﷺ على ربه بينما المقام مقام مصيبة فيقول (هذه دعوات ينسكب اليقين من كل حرف فيها، إن الهزيمة قد تكسر أفئدة الذين يعبدون الله على حرف. فأما الذين فنوا في الله وباعوه نفوسهم وأموالهم، فإن عبوديتهم تتألق في السراء والضراء، وهم يسلمون لله ما أراد، ويخضعون لحكمته. وذاك سر الكلمة الرقيقة الغالية التي قالها الرسول لصحبه بعد الهزيمة: “استووا حتى أثنى على ربي عز وجل.. “. لما تألم المتنبي لشر ناله من سيده سيف الدولة قال: فإن يكن الفعل الذي ساء واحدا فأفعاله اللائي سررن ألوف!
إن الموقف هنا شيء آخر، فإن النبي الجليل عد ما وقع قدرا يعلم الله حكمته، ولا يجرؤ على وصفه بالسوء، أنه يستعيذ بالله من شر ما أعطى ومن شر ما منع على سواء، فربما كان العطاء مخوف العقبى، وربما كان المنع ألما في الحاضر، وخيرا في المستقبل. وحصن المؤمن أولا وآخرا هو الله تبارك اسمه. وقد ختم الرسول دعاءه باستنزال بأس الله على المشركين، ثم ضم إليهم الكفار أهل الكتاب، وذاك أن اليهود في المدينة كانوا يتربصون الدوائر بالمسلمين. إنهم سيفرحون كثيرا لما حدث، حسبهم الله!. ولا شك أن ضربة أحد كانت موجعة، بيد أنها نفضت المجتمع الإسلامي نفضا شديدا، فامتاز المنافقون، وانعزلوا بغشهم وخداعهم، وتعلم المسلمون كيف يواجهون الأحداث بإيمان حر، وصف ملتئم. وشمت اليهود للنكبة النازلة، ولكن لم تمض سنون حتى نزل بهم أضعافها، ثم تركوا قلب الجزيرة إلى حيث ألقت) .
{والعاقبة للمتقين} جاءت مرتين؛
- الأولى في سورة الأعراف
- والثانية في سورة القصص
- وجاء قوله تعالى {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى }في سورة طه
- وأكد سبحانه وتعالى هذا المعنى بقوله{إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49]
وبمراجعة سياق الآيات التي ورد فيها أن العاقبة للمتقين تأسيسا وتأكيدا نجد أن هذه الآيات مسبوقة بالأمر بالاستعانة بالله تعالى والصبر وهما عدة المؤمن في السراء والضراء ووسيلته للوصول إلى العاقبة الحسنة، وليس المطلوب من المسلم وقت الأزمات الصبر فحسب، بل المصابرة والمرابطة {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [آل عمران: 200] والمصابرة بذل المزيد من الصبر والثبات عليه لتكون العاقبة الحسنة لأطول الفريقين نَفَسَا وأقدرهم على الصبر، وكلما طالت الأزمة ظهرت أقدار الناس ومنازلهم فلا يقدر على المصابرة إلا صديق موقن بقرب فرج الله، إن الصبر لا يعني أبدا سكون الموتى بل هو حركة مبنية على الوعي قبل السعي، ومليئة بالنشاط والحيوية ،راجية لفضل ربها مدركة أن مع العسر يسرا.