مشهد ذكره الله جل في علاه في كتابه العظيم، جنّ يستمعون لسيد البشر، ينصتون لأجلّ كلام وأعلى بيان، يقول الله جلّ وعلا مخبرًا عن تلك الحادثة التي وقعت بمكة بعد عودة النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف وقد كذّبه سفهاء الناس، فهدى الله إلى نوره نفرًا من الجن:{ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا ۖ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ}.

وقد ورد في السورة المسماة باسم الجن وصف الجن لهذا القرآن بأنه عجب، وهو وصف تكاد تراه رأي العين لمطابقته التجرية الذاتية لكل فرد مع القرآن حين يريد الاهتداء به، القرآن عجب في تلاوته وترداد كلماته وتجويد حروفه، عجب في الاستماع إليه والتلذذ بجرس ألفاظه، عجب في بيانه ومعانيه، عجب في إحكام تشريعاته والحكم الكامنة في أوامره ونواهيه، عجب في شأنه كله.

وتحفل كتب الحديث والسيرة بمشاهد رائعة ترينا جمال الأداء القرآني ونهاية التغني وغاية الإبداع في تلاوة الآيات وتحبير السور، وتأتي في القمة من ذلك قصة تلاوة عبدالله بن مسعود رضي الله عنه على النبي عليه الصلاة والسلام ونرى تعجب “ابن أم عبد” القارئ المتقن من طلب النبي عليه الصلاة والسلام أن يقرأ عليه القرآن، القرآن الذي نزل على فؤاد النبي عليه الصلاة والسلام ثم تلقاه عنه ابن مسعود وأصحابه! فقال ابن مسعود متعجبًا:يا رسول الله أأقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: «نعم» فقرأ عبدالله سورة النساء حتى أتى إلى هذه الآية: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيدٍ وجئنا بك على هؤلاء شهيدا } قال: «حسبك الآن»،والتفت ابن مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم  فإذا عيناه تذرفان.

وتمر ألف وأربعمائة عام ويأتي العلامة الدكتور محمود محمد الطناحي- عالم العربية الضليع في علوم القرآن، والأديب السمّيع المتذوق لبلاغة القرآن- رحمه الله فيقول: وما دخلت المسجد النبوي مرة إلا وقرأت سورة النساء, لأستحضر تلك الصورة الغالية الخاشعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وابن مسعود يقرأ عليه سورة النساء .

إن في سماع القرآن لذة وشعورًا غير شعور التلاوة وكلها مقامات جليلة، والاستماع بقلب حاضر يعين على التدبر والتفكر ، ولربما كان التأثر و تعقل المعاني بالاستماع إلى تلاوة من قارئ مجيد متقن يعيش مع القرآن لربما كان أكثر وقعًا وأعظم تأثيرًا من التلاوة .

وذات ليلة استمع النبي صلى الله عليه وسلم إلى صاحبه وتلميذه النجيب أبي موسى الأشعري وهو يقرأ القرآن ويتغنى به فلما أصبح قال له مظهرًا إعجابه بأداء أبي موسى وتلاوته : “لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داوود”، ويصيب الجذلُ والفرح بفضل الله أباموسى فيقول: أما إني لو علمتُ لحبرّته لك تحبيرًا.

أي وثبة من وثبات الخيال تأخذ بنا إلى أفق تحبير أبي موسى رضي الله عنه الذي أوتي مزمارًا من مزامير داود! داود عليه السلام الذي كان عندما يتلو كتابه “الزبور” ويترنم به تقف الطير وتجاوبه،وتردّ عليه الجبال تأويبًا.

أي حلاوة وحسن وجمال سكنت ذلك الصوت صوت أبي موسى؟! وأي فخامة وجلال زينته وأضفت عليه بهاءً وألقًا!

وكان عمر بن الخطاب يقول لـأبي موسى رضي الله عنهما: ذكرنا ربنا، فيقرأ وهم يستمعون.

وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعوا أمروا واحداً منهم أن يقرأ والباقي يستمعون.

وهذا الصحابي الجليل أسيد بن الحضير رضي الله عنه يذكر قصة عجيبة وقعت له وهو يقرأ من الليل سورة البقرة، وفرسه مربوطة عنده إذ جالت الفرس ودارت،فسكت فسكنت، ثم قرأ فجالت، فسكت فسكنت! ، ثم قرأ فجالت الفرس، فانصرف، وكان ابنه يحيى قريبًا منها، فأشفق أن تصيبه،ورفع رأسه فرأى أمثال المصابيح ملء مابين السماء والأرض، فلما أصبح أخبر النبي عليه الصلاة والسلام فقال له: تلك الملائكة دنت لصوتك.

وقد وقع للصحابي ثابت بن قيس بن شمّاس رضي الله عنه مثل هذه القصة.

إن الإنسان بطبعه يلتذ بسماع رائق القول، ولا ألذّ من سماع آي القرآن المعجز المتفرد بنظمه الذي لا يشبهه أي نوع من أنواع البيان؛لأنه كلام الله الذي تكلم به سبحانه، فهو النهاية في الإعجاز والقمة في البلاغة، ولا يشبهه أي شيء.

ويزداد التأثر بسماع القرآن ويعظم الانتفاع حين يكون صوت القارئ حسنًا نديًا متمثلًا لقواعد الأداء القرآني، ملتزمًا لأحكام التجويد، سائرًا على سنن التلاوة كما جاءت عن السلف الصالح رحمهم الله الذين تلقوا الأداء عن أئمة القراء المتقنين.

ومن صور التلاوة التي حفظها التاريخ لأحد القراء المجيدين تلاوة الفضيل بن عياض رحمه الله، فقد وصفوا قراءته فذكروا أنها كانت حزينة، شهية،بطيئة، مترسلة، كأنه يخاطب إنسانًا.

ولعل ما يسمى الآن في عصرنا بـ”القراءة التصويرية” يشبه ما ذكر عن قراءة الإمام الفضيل بن عياض، قراءة مترسلة، على مهل، كأنه يخاطب إنسانًا.

وتشعر فيها بمعنى الخطاب القرآني والتوجه إلى مستمع يعقل ما يرد على قلبه وروحه.

ويبقى سماع القرآن على الوجه الأكمل زادًا لزيادة الإيمان وراحة الروح ونقاء القلب وسلامته.

وسيظل سماع الآي نبعًا ثرًّا يفيض بالجمال والجلال على النفوس ويظللها بالسكينة والأمن والرضا.

سيظل هذا السماع الشريف سنا هذا الفضاء، سيظل عطرًا كامنًا في تباشير الصباح، ونغمًا جميلًا في هدأة الليل، وزجلًا يزدهي به الكون في سكون الأسحار، سيظل هذا الصوت السماوي له دويّ النحل في حِلَق التلاوة، وجماليات التحبير في محاريب المساجد، و فخامة الجلال في المحافل والمشاهد.

سيبقى قرآن الفجر نورًا يشرق على الدنيا شهادة بالحق وشهودًا حضاريًا على مر الأيام والليالي.

سيبقى صوت القرآن أنيس المستوحشين وسلوة المحزونين و لذة العارفين.

ستبقى التلاوات تشنف الأسماع وتطمْئن القلوب و تغذي الأرواح مادام هذا القرآن العظيم.