كانت بوادر القيادة و النباهة والتميز في داود عليه السلام منذ شبابه وفتوته ، لا سيما حين شارك في معركة التحرير تحت لواء طالوت ضد جالوت المتجبر ، حيث قام الشاب – عليه السلام – بقتل جالوت رغم مهابته وقوة شكيمته وبأسه ، فطارت سمعته في الأرجاء ولفت إليه الأنظار والقلوب ، وبرز من خلال الميدان ، حيث صاغته التجربة وصنعه الواقع وحنكته الممارسة  .

إن القيادة لا بد لها من واقع مشاهد وتاريخ ملموس حافل بالإنجازات على الأرض يشهد لصاحبه بالتميز والحنكة ، وليست مجرد تصريحات ورتب وأوسمة وألقاب تخلو من أي أثر على مستوى الأمة والمجتمع .

قال تعالى(فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ) البقرة: 251 .

فصفات داود القيادية أجملها القرآن بما يلي :

– شجاعة وقوة بأس : وهذا واضح من خلال قتله لجالوت ، فهي من أهم صفات العسكري المبرز والقائد القدوة .

– الحكمة : وهي وإن كانت تعني النبوة ، لكنها تلقي بظلال وافرة في هذا السياق ، حول قيمة الحكمة (الفهم والعقل والفطنة ) وأهميتها في إدارة شؤون البلاد وسياسة الرعية . قال تعالى  ( وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة والفصل الخطاب ) ص : 20

 فإلانة الحديد له عليه السلام  يشير بوضوح إلى أهمية تسخير قوانين المادة والأسباب المتاحة في تقوية السلطان والحكم ، والتدبير المتقن لشؤون الدولة وعمران الأرض بما يعود بالنفع على الرعية

 – العلم : فهي من أهم الخلال في القيادة الدينية والدنيوية ، ناهيك عن المعرفة بأسباب الملك والسلطان وعمران الأرض وسنن النصر . قال تعالى ( وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ ۖ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ ) الأنبياء : 80 .

والوقوف على أسباب التسخير وقوانين النصر وناموس الطبيعة ، بانسجام تام مع الكون ( وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ . أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) .         سبأ : 10- 11 .

فإلانة الحديد له عليه السلام وإن كان خرقا للعادة هنا ، لكنه يشير بوضوح إلى أهمية تسخير قوانين المادة والأسباب المتاحة في تقوية السلطان والحكم ، والتدبير المتقن لشؤون الدولة وعمران الأرض بما يعود بالنفع على الرعية .

– العمل الدؤوب والهمة العالية والنفس الطموح ، العزيزة الأبية المترفعة عن الدنيا وزينة وإغراء الحكم،وشهوة السلطة ( الكرسي ) مع اتساعها ، فداود عليه السلام مع نبوته وقوة ملكه ، إلا أنه كان صاحب حرفة وصنعة تكفيه مؤنته من الطعام والشراب ( أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) سبأ : 11.

d3
مخطط القيادة لدى داود عليه السلام

لقد احترف عليه السلام صناعة الدروع المتقنة والمحكمة حتى ينتفع بها الناس في الجهاد ..، فحرفته كانت تصب في شأن القيادة . (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ ). البخاري .

– التواضع والخنوع والخضوع والانكسار بين يدي الخالق سبحانه،والرجوع المستمر له بالتوبة والإنابة، كيف لا وهو نبي مرسل ،صاحب رسالة سماوية ورؤية أخلاقية ، لن يحيد عنها ، ولن يطغيه الملك وينسيه هدفه ورسالته . ( واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب ) ص : 17 .

والأيد : تعني القوة بشتى صورها . وأواب : رجاع إلى الله بالتوبة والشكر ..

لقد ذكر لنا القرآن الكثير من مشاهد الطغاة والجبابرة ..الذين أعماهم السلطان والملك والقوة والمال ..، فتحكموا برقاب الناس واستعبدوهم ، وأفسدوا في الأرض أيما إفساد ،حتى أخذهم العزيز المقتدر ..

فمن لوازم الخلافة  إقامةالعدل وعدم الانصياع للهوى الشيطاني والشخصي والسلطوي والفئوي والمذهبي والقبلي في إدارة شؤون الدولة ، لأن فيه الضلال عن الهدى، والميل الجامح عن سنن الرشاد، والوقوع في سقطات  كارثية ، تجر الويلات على المجتمعات والشعوب والأمم.

– العدل : وهو ميزان الحكم وقانون قيادة الشعوب ، فلا تصلح سياسة الناس بدونها .

(يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ )      ص : 26 .

فمن لوازم الخلافة  في الأرض إقامة الحق والعدل وعدم الانصياع للهوى الشيطاني والشخصي والسلطوي والفئوي والمذهبي والقبلي ..، في القرارات والحكم وإدارة شؤون الدولة بكل مؤسساتها ، لأن فيه الضلال عن الهدى ، والميل الجامح عن سنن الرشاد، والوقوع في مزلات وسقطات سياسية وعسكرية واقتصادية واجتماعية كارثية ، تجر الويلات على المجتمعات والشعوب والأمم .

– فصل الخطاب : أي الفصل في القضاء والإصابة فيه مع الفهم والفطنة ، والنباهة في حل العويص من مشكلات بكل أشكالها .. ( وآتيناه الحكمة والفصل الخطاب ) ص : 20. فانظر كيف ربط بين الحكمة والفصل في الحكم والقضاء . وهي صفة نادرة عزيز وجودها بين القادة .