كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن ظاهرة التدين والتزام المسلم بشرائع دينه، من مقالات منشورة في الصحف والمجلات عبر الشبكات التواصلية وغيرها، وكلها تسلك مسارات مختلفة في الطَّرق والعرض، بين إسهاب واختصار، ولعل مما يحتاج إليه المسلم اليوم أن يلتمس الطرق المثالية للقيام بمعالم الدين، والالتحاق بركب السباقين إلى الخيرات، خصوصا في هذه الأوقات التي اختلطت الأمور ببعضها، ونضحت النفوس بالشبهات، والمتمسك فيها بدينه مثل القابض على الجمرة!

 

ولعل من أولى خطوات الالتزام بالدين البدء بالأول والأولى، والأهم .. وهكذا، يبدأ المسلم بأهم الأسس الشرعية، كالمحافظة على الواجبات العينية التي تحقق له ضرورياته الأولية مما تستحيل حياته دونها، ثم مكملات ذلك، ثم حاجياته فمكملاتها.. ويدرج بعد ذلك إلى ما دون الواجبات العينيية. لكن حيال هذا تعترضنا قضية أساسية وهي حين يحافظ المسلم على الواجبات أولا ثم مكملاتها .. ألا يكون بالمقابل يعطل جوانب كثيرة من الشريعة الإسلامية ؟ نضرب مثالا على ذلك ليتضح المقال، إذا حافظ المسلم على الصلوات الخمس وما يتبعها من فرائض أخرى وهو مقيم على الخمر أو متعاطي بعض المنكرات ألا يعتبر ذلك نقضا لأصول الشريعة ، وهي بين أمر ونهي ؟

إن الأحكام الشرعية من حيث التأسيس والتشريع جملة متكاملة لا يتجزأ ، ويتساوى فيها المكلفون دون تمايز بينهم في الجملة

 

للإجابة على هذا التساؤل يدعونا الحديث عن قضية التدرج في التطبيق الشخصي لشرائع الإسلام، ونقصد بهذا قيام الفرد بما يطيقه من المسؤوليات الدينية العينية أولا بغية الوصول إلى أعلى مراتب التدين، بعيدا عن التنكس الطائش الذي ينتج من الاندفاع الأولي . هذا الأمر عالجه المعاصرون بالتفصيل – للأسف – في مجال تطبيق الشريعة للدولة والمؤسسات فقط، وأغفلوا جانب الفرد المسلم الذي هو ركن أساسي للمجتمع، وبه تشكلت الدولة وقامت المؤسسات، وخطاب الشرع موجه إليه ابتداء وانتهاء، فإن صلاح الفرد الديني صلاح مجتمعه، وفساد ذاته فساد ما حوله، وإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم!!

 

وإذا أريد تأصيل هذا الموضوع يمكن أن نخرّجه على أصل تجزؤ الاجتهاد، هل يمكن أن تغيب عن المجتهد أحكام بعض الفروع ؟  اختلف عليه الفقهاء بين مجيز ومانع، والأمر ذاته قد يرد على قضيتنا، هل يجوز أن يقوم الفرد ببعض ما يقدر عليه من الواجبات ويعذر في بعضها حتى يتمكن منها ؟ فإن المكنة والقدرة تتصور في كلا الحالين ، ولا يحمل أحد المسؤولية مع وجود العجز.

 

يختار ابن تيمية في المجموع أن الحجة على العباد إنما تقوم بشيئين: بشرط التمكن من العلم بما أنزل الله ، والقدرة على العمل به. فأما العاجز عن العلم كالمجنون أو العاجز عن العمل فلا أمر عليه ولا نهي ، وإذا انقطع العلم ببعض الدين أو حصل العجز عن بعضه ، كان ذلك في حق العاجز عن العلم أو العمل بقوله كمن انقطع عن العلم بجميع الدين أو عجز عن جميعه كالجنون مثلا.

الظاهر أن التطبيق الذاتي عند المسلم يتفاوت في القدرات والمستويات ، فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات ، فإذا نريد الارتقاء بمستوى المسلم غير الملتزم إلى أسنى مراتب التدين، فلعل من الحكمة التدرج

 

وما انتشر من بعض المفكرين أن الإسلام جملة لا يتجزأ .. فإن الأخذ بالتدرج في التطبيق الشخصي حسب المكنة والاستطاعة لا يتعارض معه، فإن الأحكام الشرعية من حيث التأسيس والتشريع جملة متكاملة لا يتجزأ ، ويتساوى فيها المكلفون دون تمايز بينهم في الجملة، وإنما حديثنا هنا عن التطبيق الشخصي لهذه الأحكام! هل يمكن أن يتدرج الفرد في مراتب تنفيذها حسب الاستطاعة ، حتى يحقق الغرض من الالتزام وهو الدوام وعدم الانقطاع أم لا ؟

 

والظاهر أن التطبيق الذاتي عند المسلم يتفاوت في القدرات والمستويات ، فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات ، فإذا نريد الارتقاء بمستوى المسلم غير الملتزم إلى أسنى مراتب التدين، فلعل من الحكمة التدرج به، وهذا ما يحقق مقصد التشريع، يقول الشاطبي: “إن الله تعالى جعل أهل الشريعة على مراتب ليسوا فيها على وزان واحد، ورفع بعضهم فوق بعض، كما أنهم في الدنيا كذلك … ثم قال: ربما تفاوت الأمر فيها بحسب قدرة المكلف على الدوام فيما دخل فيه وعدم قدرته، فمن لا يقدر على الوفاء بمرتبة من مراتبه لم يؤمر بها، بل بما هو دونها، ومن كان قادرا على ذلك كان مطلوبا.”

وحين يطلب من الفرد أن ياخذ الإسلام جملة أو يدعه، فإنه قد يؤدي إلى تعطيله جملة وتفصيلا، أو إخراجه إلى التعبد حسب هوى غيره، وهذا يهدم الدين والتدين، ويكون دينه لإرضاء غرض فلان أو علان، والدين إنما جاء لإصلاح الفرد وإحقاق حظه في الدنيا العاجلة و صلاحه في الآخرة.