قد تأخذ نزعة العقوق شكلا غير واضح و عنيف يظهر حديثا في الرغبة في التنكر و الحياد و إدارة الظهر لكل قديم علمنا إياه آباؤنا بحجة التغيير و تطوير الأساليب و اختلاف الرؤى و إن زمننا غير زمن آبائنا، و إن كل وقت له آذان، وأن سلوك نفس الدروب و استخدام نفس الوسائل ستكون له نتائج كارثية!

وتبلغ الثورة أشدها في رفض ما يسمى بالمجتمعات الأبوية و يخلط شعبان برمضان و يزوق النكران و الانفصام و الانفصال بأسماء جميلة كالتحرر والابداع والمساواة ومجاراة العصر بل و تأتي فترة على الشباب ممهورة بالتمرد يرون أنفسهم متفوقين على مربيهم الذين عفا عليهم الزمن بحجة الفجوة بين الأجيال!

كان حريا بنا ان نفهم مغزى رواية “لن أعيش في جلباب أبي” التي كتبها إحسان عبد القدوس، كاتب روايات الحب و الجنس التي خربت في أخلاق الشباب أكثر من الاستعمار، و المقصود منها فصم عرى القدوة و التربية في الأسرة و تأجيج الأبناء على آبائهم بحيث يصبح انفصالهم عن الأسرة و دورها أمر مرغوب و محمود!

آباؤنا لم يملكوا وسائل الاتصال وربما للآن لا يحسنون استخدامها لو ملكوها ولكنهم ملكوا الكثير من الصدق و المحبة و بذل النفس، كانت رسائلهم تكتب بدفق القلب ودمع العين و اشتياق الوجدان

وللأسف فقد تلقفنا هذه العبارة “لن أعيش في جلباب أبي” دون تمحيص و أصبحنا نسوقها في عناوين لقصص ايجابية في التغيير و الزيادة على ما فعله الاولون! و العجيب أن نتقبل في أفكارنا مضمونا حسنا مُدخله سوء مع أن الأصل أن المكتوب يظهر من عنوانه!

نُغفِل في لوثة البحث عن التغيير و التجديد ذلك السأم و الصدمة التي تصيبنا لا محالة في منتصف الطريق من تغير أخلاق الناس و ذممهم و فقدان البركة في الأشياء برغم اجتهادنا في الوسائل و ضبط الأمور على “التكة.

نوفر كل العناصر المادية لنجاح المشاريع ثم يأتي تفريط من أحدهم ليفسد كل الجهود فجيلنا بلا شك أحدث ثورة في الأشياء و لكنه قارب الإفلاس في الروحانيات و الأخلاقيات التي تشكل البشر الذين يقومون على الانجاز.

آباؤنا لم يملكوا وسائل الاتصال وربما للآن لا يحسنون استخدامها لو ملكوها ولكنهم ملكوا الكثير من الصدق و المحبة و بذل النفس، كانت رسائلهم تكتب بدفق القلب ودمع العين و اشتياق الوجدان، ورسائلنا الآن ديباجة معلبة نكررها للجميع دون تمييز يدل على مكانتهم في قلوبنا.

في زمن آبائنا كانت كلمة الرجل عهدا و ميثاقا واجب الوفاء منه في حياته و من أهله دينا بعد مماته، والآن لدينا كافة العقود القانونية المكتوبة والمسجلة التي يتحول كثير منها الى قضايا في المحاكم لفقدان الأمانة القلبية في الناس التي تلزمهم بوعود واجبة القضاء أمام الله قبل الناس.

في زمن آبائنا كانت العوائل متحابة و يعيش العشرة والعشرون والثلاثون في منزل واحد تحده المودة و التكاتف و السكينة من جهاته كلها، برغم ضيق ذات اليد، واليوم الأخ لا يحتمل أخاه و لا يتعرف عليه في منازل واسعة مترفة، فما ينفع اتساع بيوتنا و صغر أفئدتنا؟

في زمن آبائنا كانت جداتنا وأمهاتنا تستحي الواحدة منهن من خيالها، كما يقول المثل، حتى بعد زواجها و الجيل الذي لم يعايش جمال الحياء ورونقه يعده الآن “دقة” قديمة وهبلا لا يسعه زمان يرى بعض أهله مبادرة الفتاة شطارة وحذقا وكسبا.

 نوفر كل العناصر المادية لنجاح المشاريع ثم يأتي تفريط من أحدهم ليفسد كل الجهود فجيلنا بلا شك أحدث ثورة في الأشياء و لكنه قارب الإفلاس في الروحانيات و الأخلاقيات

في زمان أهالينا أخطاء كثيرة و لكن جيلنا ليس مطهرا ليضربهم بحجر أو يحاول التطهر منهم، بل إن كثيرا من مصائبنا تكمن في عدم الوصول إلى حالة توافقية متزنة تغربل المكروه والزبد في زمنهم وممارساتهم وتحافظ على النافع لتمهد به طرقا وسبلا ومسارات جديدة في خط لم يبدأ من الصفر، و إنما ضم إلى الخبرة التراكمية نفسا مدركا وواعيا من الجِدة والتطوير، لا بد أن كلا منا دمعت عينه مرة أو تأوه قلبه هنيهة أو توجع فؤاده برهة في موقف فشل أو خذلان أو ظلم تعرض له بالرغم من بذل كل شيء لنجاحه فردد قلبه قبل لسانه “سقى الله أيام زمان”، يوم كان الناس مفطورين على الحب، معجونين بالصدق، ممتلئين بالتضحية، يوم كانت الوجوه بشكل واحد والكلام بمعنى واحد، والسيف معك ولأجلك لا ليغرز في ظهرك يوم نتعرض لكل هذا، وما أكثر تعرضنا له في هذا الزمن.

أصحاب المبادئ كثيرو الابتلاء والجروح والقروح والمظالم، نهرع بعد طرق باب المولى لعباءة أب أو حضن أم أو حتى قبر غال، ليزملونا من روع الأذى ويثبتوا الفؤاد ويذكرونا أن الجولة الأخيرة والنصر المؤزر وقرة العين للحق ولا شيء غير ذلك، فنخرج من ظل هذه العباءة وذلك الجلباب أكثر قدرة على مواجهة لفح القيظ و تباريح البلاء، أدام الله العباءات والجلابيب التي تشكل نقط ارتكازنا وحامية ظهورنا ومنطلقنا لمعانقة كل جميل وجديد وصادق، فلولاها لما كان لنا قلب يتفكر وعقل يتدبر وفؤاد يتحرق ويد ترى في العمل، حتى ولو أدماها الشوك، أجرا لكل من له فضل في تربيتنا وتعليمنا الخير بارك الله في أعماركم وأعمالكم ورحم الله وأجزل الأجر للمتوفين