يقسم الحق سبحانه وتعالى في سورة العاديات معظما شأن خمسة أمور كلها متعلقة بالخيل و بمهاراتها في القتال والغزو ، ومعلوم قيمة الخيل وقدرتها وميزتها في النزال وملاقاة العدو عبر الأزمان حتى قال الرسول – ﷺ – فيها : (الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة). مسلم . كتاب الإمارة . فقد خصها بشرف عظيم وخير وفير من دون بقية ما يركب من المخلوقات ، كما نص الحق في كتابه العزيزعلى دورها في الإعداد وإرهاب العدو ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ) . الأنفال : 60
في سورة العاديات يقول الحق سبحانه ( وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا . فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا . فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا . فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا . فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا . إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ .. ). 1- 6 . والمقسم عليه هو : إن الإنسان لربه لكفور جحود .
إن استراتيجيات الحسم العسكري اليوم تعتمد السرعة في التخطيط والهجوم لإصابة العدو بالشلل التام ، بدلا من خوض معركة استنزاف يطول أمدها
والعجيب في الآيات السابقة أن الله سبحانه لم يقسم بالخيل بجمالها و شكلها و خلقها.. وإنما ربط القسم في حركات ملفتة مؤثرة لها دور في القتال والجهاد تكاد تكون استراتيجيات عسكرية هامة ، يمكن اتباعها والسير حذوها عبر الزمان والمكان والميدان مع اختلاف في المعطيات ، بيان ذلك : أقسم الله بالخيل حين :
– تعدو وتسرع فيخرج منها صوت النفس الناتج عن السرعة ، وهو الضبح . فالإشارة هنا لأمرين مهمين معا هما السرعة والصوت . ومعلوم أثر السرعة الواضح في العسكرية ، فهو يؤدي إلى امتلاك زمام الموقف والتحكم الفاعل في ميدان المعركة . لقد كان خالد بن الوليد – رضي الله عنه – كثيرا ما يطبق هذا في حروبه التي خاضها حتى وصف ” بأنه في أناة القط ووثبة الأسد ” .
إن استراتيجيات الحسم العسكري اليوم تعتمد السرعة في التخطيط والهجوم لإصابة العدو بالشلل التام ، بدلا من خوض معركة استنزاف يطول أمدها . كما أن السباق قائم على على أشده بين كبرى القوى فيمن يصنع ويطور الطائرات والآلات والمحركات والأسلحة الأكثر سرعة وفاعلية ، والتي تحقق الهدف والضربات الخاطفة في أقصر وقت ممكن وتحدث عنصر المفاجأة في زمن قياسي. مع مراعاة خفة الحركة والمرونة .
– توري النار بحوافرها ، فمن شدة عدوها وانطلاقتها وقوة ضرب أرجلها الأرض تكاد تشعل نارا وشرارا ولهيبا من احتكاك الحوافر بالأرض الصلبة . فالتلميح هنا بالنار ، وهو عماد الآلات القتالية اليوم وأساس في عملها ، فما من آلة هجومية أو دفاعية أو محرك في وقتنا أو ذخائر ذكية إلا وتعتمد على النار والشرر والقدح والليزر..، بل إن كثيرا مما يقذف من معدات قتالية ومدافع تعتمد التدمير بالحرق .
– تغير في سبيل الله صباحا في وقت البكور علانية على العدو ، فتفاجئه وتباغته حالة غفلته وتوجه له ضربات مركزة ، مما يحدث له صدمة تربكه وتمنعه من الصمود والدفاع وتضطره للاستسلام ، وهو ما يسمى اليوم بالحرب الخاطفة .ولقد كان نبي الله محمد – عليه الصلاة والسلام – يتبع هذه الاستراتيجية في حربه مع العدو ، فقد ثبت في الصحيحين من حديث إسماعيل بن علية ، عن عبد العزيز بن صهيب ، عن أنس – رضي الله عنه – قال : صبح رسول الله – ﷺ – خيبر ، فلما خرجوا بفؤوسهم ومساحيهم ورأوا الجيش ، رجعوا وهم يقولون : محمد والله ، محمد والخميس . فقال النبي – ﷺ – : ” الله أكبر ، خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين “ . ورواه البخاري من حديث مالك ، عن حميد ، عن أنس.
أهمية الخداع في الهجوم السريع المباغت والسرية فيه ، ليتم عنصر المفاجأة على أكمل وجه
– ترفع بالوادي نقعا من حوافرها ، أي الغبار أو التراب ، وهو ناتج عن السرعة والقوة في العدو ، إضافة للكثرة في الهجوم المباغت مع الإحاطة والسيطرة . ولعل الإشارة إلى الغبار والنقع يفيد – والله أعلم – : إلى أهمية الخداع في الهجوم السريع المباغت والسرية فيه ، ليتم عنصر المفاجأة على أكمل وجه ممكن ، فيربك العدو ويحقق الهدف المطلوب .
– تتوسط جمع العدو فتفرقه وتشتته وتتمكن من الاستحواذ على الميدان والهيمنة عليه وتوجه ضربات قاتلة في تجمعات العدو وقوته الرئيسية المحورية ، وتحيط بالعدو مثيرة الرعب والفزع في صفوفهم ، فهي تعرف هدفها وقصدها ، وتعرف كيف تصل إليه .
إن مجيء سورة مكية – في فترة لم يكن فيها ثمة جهاد – وبهذا النسق ، تقسم على مثل هكذا أمور ، مع الإشارة لمكانتها في الغلبة والسيطرة و إخضاع العدو وقهره مع المرونة وخفة الحركة والمناورة الذكية ، لهو خير دليل على اهتمام القرآن واعتنائه بالتسابق للتسلح وحيازة الهيمنة والتفوق ، وابتكار كل ما هو جديد وفعال في ميادين الحرب ، ومواكبة التطور العسكري والتقني ، وامتلاك قدرات قتالية فائقة على تعبئة وجاهزية كبيرة ، ومضاعفة الجهود وتكريسها للأخذ بسنن النصر والتمكين والقوة ، والأخذ بزمام المبادرة في الإعداد وإرهاب الخصم والاتباع الدقيق لاستراتيجيات حديثة دوما في مناجزة أهل الظلم والعدوان والبغي .