كشفت الكاتبة الأميركية دينيس سبيلبرغ مسائل قد تكون مجهولة لدى المثقفين والسياسيين العرب، تتصل بدور النص القرآني وتعاليم الإسلام في النقاش الذي دار بين الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأميركية، خلال وضع الدستور وتحديد المبادئ الأساسية في شأن حقوق المواطن الأميركي وسائر الأقليات الدينية والإثنية الموجودة على الأرض الأميركية. احتل القرآن موقع سجال بين مؤيد لاستلهام بعض مبادئه وبين معارض له من موقع عداء ديني كان سائداً ضد الأديان غير المسيحية، خصوصاً البروتستانتية منها. لذا، يشكل الكتاب وثيقة مهمة في مرحلة زمنية كانت الحروب الدينية مندلعة في الأقطار الأوروبية وتحصد مئات الآلاف من أبنائها باسم الدين الحق الذي تحتكره هذه الفئة أو تلك، والهرطقة والكفر اللذين تتسم بهما المذاهب والطوائف كافة. (صدر الكتاب عن دار جداول في بيروت – ترجمة فؤاد عبد المطلب).

 

إذا كانت الكاتبة قد انطلقت من كون أحد مؤسسي الولايات المتحدة ورئيسها تحوي مكتبته نسخة من القرآن مترجمة إلى الإنكليزية لإظهار مدى اهتمامه بدين آخر غير المسيحية، فإن الوقائع التاريخية والأرشيف الأميركي عن تلك المرحلة تظهر أن النقاش من أجل ضمان الحرية الدينية شكل حجر الزاوية في الدستور الأميركي وحقوق المواطن فيه. كان جيفرسون والمؤسسون يعرفون الإسلام إلى حد ما، وإن كانت المعرفة غير كافية. وعلى رغم أن النظرة العامة كانت تتسم بالعداء تجاه المسلمين وخطرهم على المجتمع الأميركي، إلا أن المؤسسين أصروا على حق المسلمين في ممارسة طقوسهم الدينية، ومشاركتهم بصورة كاملة في الحياة السياسية بصفتهم مواطنين.

 

في مقدمتها للكتاب تقول: «أما بالنسبة لي، فقد مثلت صفحات جيفرسون والقرآن دليلاً تاريخياً مقدساً، ليس على حقيقة الإسلام، بل على قدرة بعض أوائل الأميركيين وتوقهم إلى معرفة ذلك الدين. وبما أنني أستاذة في التاريخ الإسلامي، فقد أردت معرفة ما يعلم الأميركيون القدماء عن الإسلام وكيف عرفوا الدين وتاريخه. ولدهشتي، وجدت أن كثراً من الأميركيين في عصر التأسيس، على رغم تراث التضليل العنيد من أوروبا، رفضوا الاستسلام للمخاوف المعاصرة التي تروج لاضطهاد المسلمين. وفضلوا أن يكونوا ورثة سلالة أقل شهرة، لكنها مهمة للتسامح الأوروبي نحو المسلمين، سلالة كان تأثيرها مغفلاً حتى ذلك الوقت في التاريخ الأميركي المبكر”. فقد كشف امتلاك جيفرسون نسخةً من القرآن مدى اهتمامه بالدين الإسلامي. قبل ذلك، كان قرأ عن الحقوق المدنية الإسلامية في أحد أعمال الفيلسوف الإنكليزي جون لوك، الذي كان دعا إلى التسامح مع المسلمين واليهود.

 

خلال وضع الدستور الأميركي، كان المسلمون جزءاً من النقاش الأميركي حول الدين وحدود المواطنة. كان المؤسسون الأميركيون من المذهب البروتستانتي، وكان نقاشهم يتمحور حول حكومة الدولة الجديدة وما إذا كانت ستصبح بروتستانتية في شكل حصري أم حكومة توافق ديني. إضافة إلى ذلك، فإن الدستور الذي سينص على الحقوق المتساوية بين المواطنين سيعني بداهة حق أي منتسب إلى دين بالوصول إلى الرئاسة الأميركية، ما يعني إمكان وصول مسلم إلى هذه الرئاسة، وهي نقطة استوجبت جدلاً واسعاً خلال مرحلة التأسيس هذه. بل إن فكرة مقاومة المواطنية الإسلامية كانت حاضرة بقوة ولها جمهورها الواسع الذي يرث تاريخاً من الصراع القديم بين المسلمين والمسيحيين في أوروبا. لكن جيفرسون كان مقاتلاً رئيسياً من أجل حقوق جميع المجموعات الدينية التي لا تنتسب إلى البروتستانتية.

 

كان جورج واشنطن، وهو أحد الآباء المؤسسين، يحمل صورة عن الإسلام في وصفه النقيض للدين الحقيقي، أي المسيحية، ومن ضمنها البروتستانتية. وكان يرى إلى الإسلام ديناً يشكل مصدراً أساسياً للحكومات الاستبدادية القائمة في عالم انتشاره. ولم تكن نظرته هذه بعيدة عما كان سائداً لدى معظم الأوروبيين والأميركيين آنذاك من كون الإسلام زائفاً وغريباً ومهدداً. ولم تكن هذه النظرة العدائية مقتصرة على الإسلام، بل كان الكاثوليك في نظر البروتستانت أصحاب مذهب مشابه للإسلام، ومصدراً للاستبداد، بما يناقض البروتستانتية الداعية إلى الحرية. مقابل هذا التيار الفكري والسياسي، أفاد جيفرسون، وهو أيضاً من أبرز المؤسسين، من تيار فكري وفلسفي كان سائداً في أوروبا في تلك المرحلة، أقل شعبية من التيار الأول، لكنه يدعو إلى التسامح مع المسلمين واليهود والكاثوليك وسائر الأوروبيين الذي أتوا إلى الأرض الأميركية. إن إصرار جيفرسون على أن حقوق جميع المؤمنين تجب حمايتها من التدخل والاضطهاد الحكوميين، تسبب له في حملة عداء من معارضيه السياسيين الذي كانوا يصرون على حصرية المواطنية الكاملة بالبروتستانت فقط.

 

سعى جيفرسون إلى الاطلاع على أوسع الدراسات الغربية حول الإسلام، بدأها بدراسة المقدمة التي وضعها جورج سيل لترجمة القرآن، وهي تحوي معلومات متضاربة حول الإسلام، كما اطلع على مسرحية فولتير عن النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، وما تحمله من عداء للدين الإسلامي، ما جعل جيفرسون في حال من التشويش في شأن الإسلام. لم يغب عنه دور المسلمين في النهضة الأوروبية وفي نقل التراث العلمي والفلسفي إلى أوروبا في زمن يسود فيه الجهل والتعصب الديني. لكن المسألة التي لم يتراجع عنها ظلت متصلة بعدم التمييز الديني في حقوق المواطن الأميركي. خاض معركة ضد الهيمنة البروتستانتية وسعيها إلى عدم الاعتراف لغير المسيحيين البروتستانت بالحقوق الكاملة، وهو ما تجسد في إصراره على تضمين إعلان فرجينيا للحقوق الصادر في حزيران (يونيو) 1776، هذه الفقرة: «إن الدين، أو الواجب الذي ندين به لخالقنا، وأسلوب تأديته، يمكن توجيهه بواسطة المنطق والإقناع فحسب، وليس بالقوة أو العنف، لذلك فإن جميع البشر مخولون في شكل متساو لممارسة الدين بحرية، وفقاً لما يمليه ضميرهم، وإنه من الواجب المتبادل على الجميع ممارسة التسامح والمحبة والإحسان المسيحي بعضهم نحو بعض».

 

في ظن جيفرسون أن تشريعه المتعلق بالحرية الدينية كانت له غاية شمولية تحمي جميع المؤمنين ومن ضمنهم المسلمون. لكن الواقع أن الذي حصل أعطى المسلمين الآتين إلى أميركا مع الهجرة الأوروبية الحقوق، فيما لم تشمل الحقوق المسلمين الأميركيين الأوائل الذين كانوا عبيداً أفريقيين نقلوا إلى أميركا الشمالية خلافاً لرغبتهم. كان جيفرسون يرى إلى هؤلاء أنهم ملكية خاصة وليسوا مواطنين، لذا لم يتمتع هؤلاء المسلمون بأي نوع من الحريات، وكانوا يمارسون طقوسهم الدينية في شكل سري.

 

واجهت الحكومة الأميركية مشكلة القرصنة لسفنها التجارية ولتجارتها بالإجمال. كان القراصنة ينتمون إلى بلدان أفريقيا الشمالية التي يدين سكانها بالإسلام. كانت مشكلة القرصنة جوهر عمل جيفرسون الديبلوماسي في أوروبا. كما كانت هذه المسألة مدار خلاف داخل الإدارة الأميركية في شأن تصنيف القراصنة وعملهم، ففيما ذهب بعض القادة ومنهم جون آدامز إلى إلباس الصراع مع القراصنة لباساً دينياً وتحميل الإسلام المسؤولية استناداً إلى نظريات تصنف الإسلام ديناً يحمي العنف ويشجع عليه، رفض جيفرسون هذا المنطق واعتبر أن الموضوع يتعلق باعتبارات سياسية واقتصادية. لكن ذلك لم يمنعه لاحقاً من شن حملات عسكرية بعد استعصاء الوصول إلى حلول سلمية. في الوقت نفسه، كان جيفرسون محرجاً من مسلك الأميركيين في أخذ أسرى مسلمين واعتبارهم عبيداً من منظار ديني، ما يعيد العبودية في شكل فج، ويضع أسئلة حول القيم الأميركية في التحرر والحرية الفردية وضمان الحقوق بعيداً من الجنس والدين.

 

تتساءل الكاتبة في أحد فصول كتابها عما إذا كان ممكناً مسلماً ما أن يصبح رئيساً للجمهورية. هذا السؤال لم يكن افتراضياً، بل ارتبط بنقاش داخل القيادات الأميركية حول هذا الاحتمال في ظل إصرار الدستور على المساواة بين جميع المواطنين الأميركيين. والقضية نفسها كانت مطروحة بالنسبة إلى اليهود والمسيحيين من غير البروتستانت. كان جيفرسون يحمل وجهة نظر تقول: “إن جميع الأشخاص سيكونون أحراراً للتعبير عن آرائهم في أمور الدين، والدفاع عنها بالنقاش، وإن الأمر نفسه لن يضعف أو يوسع أو يؤثر في أهليتهم المدنية على الإطلاق” ، هكذا كان مشروع جيفرسون في الحقيقة قد فتح الباب، نظرياً عل الأقل، لإمكان مساواة سياسية عدها الكثيرون مستحيلة.

 

ظلت مسألة الحرية الدينية والمساواة فيها لجميع المواطنين موضع سجال طوال القرن التاسع عشر، لعل أبرز النقاشات كانت على يد القس المعمداني جون ليلاند الذي دافع عن حقوق المسلمين، والذي اعتبر أن العقائد الرسمية في موطنه ماساتشوستس هي أسوأ الشرور، وذلك لأنها لا تعترف بالمساواة الدينية والسياسية. ترددت أصداء إخلاص ليلاند لقضية حقوق المسلمين بصورة متكررة في مواعظه الكنسية ومقالاته الصحافية حتى نهاية حياته. كان يمقت فكرة التسامح لأنها تفترض أن بعض الناس أرفع شأناً من بعضهم الآخر، كي يمنحوهم غفراناً، في حين أن جميع الناس يجب أن يكونوا أحراراً وفي شكل متساو بعيداً من أي تصنيف ديني.

 

لا تزال مسألة المساواة في الحقوق الدينية ومعها الحرية الدينية موضع سجال في أميركا حتى اليوم، فاقم منها ما بات يعرف بالمعركة ضد الإرهاب. لعل كتاب جيفرسون والقرآن يمثل مادة مهمة في هذا النقاش القديم – الجديد، ويطرح مسائل تستحق التبصر في زمننا الراهن.