تتجسد ملامح هويتنا العربية الإسلامية في الذاكرة الحية التي حملتها روايات الأجداد وتجاربهم، لكن في عصر التسارع الثقافي والانفتاح الرقمي الذي يغري الناشئة، تتعرض هذه الذاكرة لخطر الانقطاع، مما يخلف ما يمكن تسميته بـ “جرح الهوية “يتجلى هذا الجرح في ضعف صلة الأجيال الجديدة بكنوز الماضي التي يحملها ” كبار القدر”؛ فبينما هم ينقلون ذاكرة الصحراء والبحر وقصص الأجداد، تضيع البوصلة لدى الشباب.

من هنا يبرز التساؤل الملح: كيف نداوي ذاكرة الأجيال القادمة، ولماذا بات الاقتراب من هؤلاء الحكماء ضرورة للمستقبل؟

ذاكرة تتجدد وتزهر

تكريم الآباء والأجداد ومن في عمرهم مبدأ إسلامي أصيل، أكده النبي بقوله: ( ليس منا من لم يوقر كبيرنا) (1) . وفي قطر، نطلق على هذه الفئة الاجتماعية وصف “كبار القدر”، احتراما لمكانتهم، وتقديرا لعطائهم الممتد عبر العقود، وهذا التقدير يجب أن لا يقتصر على مطلع شهر أكتوبر للا حتفاء بـ “ اليوم العالمي للمسنين”، بل نهج يمارس عمليا على مدار العام.

لقد شارك كبار القدر في بناء نهضة المجتمع عبر أدوار متكاملة، في الغوص، والزراعة، والتجارة، والصناعة، والتعليم. نرى منهم الغواص الذي جاب أعماق البحار بحثا عن اللؤلؤ، والتاجر الذي ذاق حلاوة الربح ومرارة الخسارة، والمعلم الذي خرج أجيالا من بناة الوطن. هذه الأدوار تكاملت لبناء هوية ثقافية متينة، كان كل فرد فيها يؤدي دورا يكمل دور الآخر فالمزارع يحتاج إلى التاجر، والغواص إلى الصانع، والمعلم إلى الجميع.

جيل ينتقل بين عالمين مختلفين

نشأت الهوية الخليجية من تداخل البحر والصحراء، واكتسبت قدرة فائقة على التكيف، لكنها ظلت بحاجة إلى استحضار واتصال مستمر بماضيها وجذورها العريقة في ظل عولمة متسارعة. إلا أن الأجيال الحالية تقف في مفترق طرق؛ فمن جانب تمكنت من إتقان اللغة الإنجليزية، إلا أن إتقانها للغة الأم لم يصل إلى الصورة المثالية، وهذا ما يلاحظ من تعثر بعض أبناء الجيل الصاعد عند قراءة حديث نبوي أو قصيدة عصماء.

هذا الجيل أيضا أحسن امتلاك المعرفة التقنية الحديثة، إلا أن معرفته بأسماء النجوم أو الأمثال القديمة وأبيات الشعر وقصص التراث كانت بصورة أقل. ربما يكون لهذا الاضطراب المعرفي علاقة بما أشار إليه ابن خلدون من اندفاع المغلوب نحو تقليد الغالب (2)، بمعنى غلبة اللغة الإنجليزية في هذا العصر.

أحد الحلول التي ساهمت في حفظ التراث ونقله من الكبار إلى الصغار هو تحول المجالس في منطقة الخليج إلى مدارس تحمل في جوهرها أبعادا تربوية متكاملة، فيتعلم الأطفال في المجلس آداب الحديث والإصغاء والتشاور، والاستماع إلى القصص الشعبية وما تحمله من معان. يرى برونو بيتلهايم أن القصة الشعبية تزرع القيم والانتماء بمرونة تفوق الخطاب المباشر، فالقصة تتيح للطفل التماهي مع البطل ومواجهة التحديات والمخاوف والشرور بشكل رمزي. ومن خلال متابعة رحلة البطل وانتصاره في النهاية، يستوعب الطفل قيما مثل الشجاعة والمثابرة والصدق والتعاون دون أن يشعر بأنه يلقن درسا مباشرا. (3)

كذلك يمكننا الاستفادة من رؤية الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار حول تأثير الصورة الشعرية والتي لا تكمن في تمثيل الواقع بحد ذاته، وإنما في نشأتها من أعماق الذاكرة الفردية والمخيال الجماعي. ومن هذا المنطلق، يمكن تناول الأمثال والحكايات الشعبية على أنها صور نابضة تختزل التجارب والمشاعر المشتركة داخل مجتمع معين. ونتيجة لذلك تتحول الحكاية الشعبية إلى مصدر هام للإلهام العاطفي، يسهم بشكل غير مباشر ووجداني في ترسيخ القيم وتشكيل المخيلة لدى الأجيال القادمة..(4) .

دور البرامج المجتمعية

وانطلاقا من فكرة المجلس، تحتاج المجتمعات إلى خطوات عملية تدعم مكانة كبار القدر والاستفادة من خبراتهم. يمكن تطوير مبادرات مثل “مجلس الأجداد” و”جسور الأجيال” ليختلط الأبناء بكبار القدر في المؤسسات التربوية والمراكز الثقافية. كما يسهم إشراك كبار القدر في التعليم في تعزيز الهوية والانتماء عبر تقوية صلة النشء بالذاكرة الحية للتراث.

خاتمة

كبار القدر هم خزائن التجربة وحملة الذاكرة الجمعية، وأعمدة راسخة لا غنى عنها لمسيرة الأمة. فإذا أحسنا استثمار هذا الكنز الحي، نشأ جيل يعتز بدينه وهويته، ويستمد من جذور ماضيه طمأنينة تصنع حاضره بثقة وتمهد له آفاق المستقبل.