واحدة من أعظم التحديات التي يواجهها الرئيس الاميركي باراك اوباما في الأشهر الأخيرة له في البيت الأبيض هي كيفية التعامل مع اقتصاد عالمي يترنح على حافة أزمة جديدة . في الأسابيع الماضية أطلقت أسواق المال مؤشرات على  مشاكل مقبلة. أسواق الأسهم حول العالم تعيش حالة من التراجع. العائدات على السندات طويلة الأجل في الولايات المتحدة تدنت الى مستويات تاريخية، ما سينعكس ضعفا في الاقتصاد. ومعدلات الفائدة تحولت الى السلبي في اليابان وبعض الاقتصادات الاوروبية، ما يؤشر إلى ان هذه الاقتصادات قد تخسر معركتها في مواجهة الانكماش.

وفي الأثناء فإن تدفق الأموال إلى الصين والاقتصادات الناشئة، التي قادت النمو العالمي بعد الأزمة المالية الكبيرة، تراجع الآن كاشفا عن وقوع هذه الاقتصادات تحت وطأة ديون متراكمة.


أكثر من مجرد تباطؤ

بالطبع فإن وضع  الأسواق قد يكون مؤشرا إلى ما هو أكثر خطورة من مجرد حالة من التباطؤ في الاقتصاد العالمي. قد يكون بداية للمرحلة الثالثة من الأزمة الاقصادية العالمية، التي شهدت مرحلتها الأولى في أزمة العقارات في الولايات المتحدة عام 2008 ، ومرحلتها الثانية في أزمة منطقة اليورو في 2010-2011. والمرحلة الثالثة هذه سيكون مركزها الصين والأسواق الناشئة.

الاقتصاد الصيني في منحدر وعر. وفي مواجهة فقاعة الاستثمارات تحاول الصين الآن توجيه اقتصادها للاعتماد أكثر على الاستهلاك المحلي

خلال الازمة العالمية في 2008 سمحت الصين بأكبر عملية ائتمان في التاريخ الاقتصادي الحديث، نتج عنها إنشاء العديد من المصانع والمساكن ومشاريع البنية التحتية. الزيادة الهائلة في الديون حافظت على تنامي الاقتصاد الصيني، وعززت الأسواق الناشئة ومنتجي السلع الأساسية، لكن نتج عنها أيضا الكثير من التجاوزات الضخمة، والكثير من الديون المعدومة في الصين وغيرها من البلدان التي تعتمد عليها.

ليس مفاجئا الآن أن الاقتصاد الصيني في منحدر وعر. وفي مواجهة فقاعة الاستثمارات تحاول الصين الآن توجيه اقتصادها للاعتماد أكثر على الاستهلاك المحلي. ولا شك أن تباطؤ  نمو الاقتصاد الصيني قد ترك أثره على الاقتصاد العالمي ، فأسعار السلع، من النفط إلى النحاس وخام الحديد، انهارت مع زيادة المعروض و ضعف الطلب العالمي، لا سيما في الصين وروسيا والبرازيل وغيرها من الدول التي يعيش اقتصادها حالة من الركود .

الاقتصادات الصناعية قلقة الان من أن موجة جديدة من الانكماش مركزها الصين ستؤدي إلى تدهور أسعار السلع المصنعة. وهناك خشية من أن الصين لن يكون لديها خيار آخر سوى السماح بهبوط أكثر في سعر اليوان، ما سيتسبب بتخفيضات تنافسية في آسيا وخارجها، ويمهد الطريق أمام أزمة ديون جديدة في الأسواق الناشئة، التي لن يكون بمقدورها خدمة ديونها للبنوك الأوروبية، ومدراء الأصول الاميركية وصناديق التحوط في نظام الظل المصرفي.


الإقتصاد الأميركي ليس معزولاً

الاقتصاد الاميركي يبدو في وضع أفضل من غيره في هذه الأزمة المتوقعة، لكن في عالمنا المعاصر لا يوجد اقتصاد ما معزول عن الاقتصادات الأخرى ، أو هو في منأى من التأثر بها.. فمن غير المرجح أن الولايات المتحدة يمكنها تجنب حالة الركود إذا سحبت في طريقها كل أوروبا، واليابان، والصين ، ومن غير المحتمل ألا تتأثر سلبا إذا كان هناك أزمة ائتمان كبيرة  في الأسواق الناشئة،وأزمة في الطاقة، وفي الديون الصينية التي من  شأنها هدم العديد من البنوك الأوروبية ،وبعض مديري الأصول في الولايات المتحدة.

وبسبب الكلفة العالية للتصدير من الولايات المتحدة فإن المستهلكين الأميركيين سيستفيدون من الطاقة الرخيصة والسلع المنخفضة الثمن، لكن مع ظروف الاقتصاد العالمي الحالية سيكون من الصعب عليهم الصمود كما فعلوا في الماضي، بالنظر الى  عبء ديون لا بأس به، والنمو الضعيف للأجور على مدى السنوات الست الماضية.

تباطؤ الاقتصاد العالمي مقلق بشكل حقيقي بسبب أن البنوك المركزية في العالم ، ورغم إجراءاتها الاستثنائية لم تفلح في عكس الانجراف نحو الانكماش، بحيث لم يعد أمامها سوى اللجوء الفائدة السلبية.

بالنسبة للولايات المتحدة فإن هذا هو الوقت المناسب لها لقيادة العالم . حتى لو كانت أميركا تتجنب الانزلاق إلى حالة الانكماش، فان التفكير في الآثار الجيوسياسية لتباطؤ الاقتصاد العالمي يثير الخوف. مثال واحد على هذه الآثار المرعبة هو ما يحدث من نمو للحركات الشعبوية في أوروبا التي تتبنى موقفا معاديا ضد اللاجئين. وبالطبع من الممكن أن الصين ستكون قادرة على تحقيق بعض الاستقرار في حالة  الهبوط في اقتصادها، وأن أوروبا واليابان ستنتزعان  بعض النمو الاقتصادي في العام المقبل، ولعل الاقتصادات الناشئة أيضا ستكون قادرة على إدارة ديونها، ومن شأن الاقتصاد الأمريكي أيضا التمتع بطفرة نتيجة لسوق العمل القوي، وانخفاض أسعار السلع والطاقة.

البنوك المركزية في العالم ، ورغم إجراءاتها الاستثنائية لم تفلح في عكس الانجراف نحو الانكماش

لكن كل ما سبق بعيد كل البعد عن الازدهار الإقتصادي الذي يفترض أن ينتشل الناس من الفقر وينشىء طبقة متوسطة أكبر. هناك عدد من الأفكار المعقولة التي يمكن أن تجنبنا أزمة عالمية وتدعم نموا اقتصاديا أكثر صلابة: استثمار أميركي ضخم في البنى التحتية، إعادة هيكلة الديون ومساعدة الأسر والطلاب في الولايات المتحدة، فضلا عن المدينين في أوروبا ومناطق أخرى من العالم، ضمانات أكبر من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لديون الأسواق الناشئة، برنامج نمو في أوروبا تقوده بنوك الاستثمار الأوروبية، تمويل أكبر لإعادة توطين اللاجئين،برامج إعادة إعمار دولية جديدة في أوكرانيا وشمال أفريقيا والشرق الأوسط، وآسيا الوسطى. ويمكن للبيت الأبيض أيضا أن يضغط على برلين وعواصم أوروبية أخرى لتخفيف برامج التقشف مع  الحفاظ على فرض عقوبات على روسيا.  كل هذه الإجراءات يمكنها أن تخلق فرص عمل أكبر، وتدعم الطلب العالمي وتخفف ضغوط الديون .

ثورة سياسية واقتصادية

كل هذه الأفكار تقريبا، باستثناء الإنفاق أكثر على البنى التحتية في الولايات المتحدة، لا يتم التطرق إليها في الخطاب السياسي الأميركي الحالي. وجميع المرشحين الجمهوريين للرئاسة اعلنوا التزامهم بتقليص الإنفاق، ومالم تتغير السياسة الأميركية بسرعة فإن الكونغرس الذي يشكل الجمهوريون أغلبية أعضائه  سيعطل أقرارأية برامج إنعاش يقترحها رئيس ديمقراطي ، فضلا عن مساهمة الولايات المتحدة في جهود الإغاثة الدولية.

معظم المرشحين للرئاسة لديهم أفكارا كثيرة حول كيف يمكن مواجهة فلاديمير بوتين أو القضاء على تنظيم الدولة الإ سلامية ، لكن أيا منهم لم يجرؤ على قول كلمة واحدة حول كيف يمكننا إنقاذ الاقتصاد العالمي من أزمة جديدة.

السيناتور بيرني ساندرز كان محقا عندما قال أننا بحاجة إلى ثورة سياسية. لكن بالنظر إلى المشاكل التي يواجهها الاقتصاد العالمي فننا يجب أن ندرك أن الثورة يجب أن تقوم بأكثر من مجرد إصلاح نظام اقتصادي وسياسي زائف. لا بد لهذه الثورة أن تسعى لتغيير علاقاتنا الدولية بحيث نعطي أولوية أكبر للمشاركة في الإزدهار الاقتصادي العالمي.