قالها مستشعرا ثقل الوحدة إلا من الأفكار.. “ويل للمفكر من الفكر” لكنه ربما كان يقصد “الفقيه” لا المفكر.. فالفقيه إذا فكر في إرثه الفقهي، ربما وصل إلى درجة من درجات الرغبة في الثورة على ما لا يستسيغه عقله الذي تكون أساسا من هذا التراث وذاك الفقه.

يقول صاحبنا: “تأتي أوقات يتمنّى فيها المفكّر المحبط، لو توقّفت لديه القدرة على التفكير، وتوقف عن طرح الأسئلة الصعبة على نفسه وعلى من سواه، فيما لا يدرك أحد عذابات أسئلته التي لا يجد لها الإجابات الشافيّة”

إنه الفقيه الأصولي أ.د طه جابر العلواني.. عراقي الأصل والنشأة، أزهري التعليم والصبغة، أمريكي الجنسية بخمس وعشرين سنة قضاها بها، غزالي التلقي والنزعة، فيه صرامة العراقيين، وعبق الأزهريين، وانفتاح الأمريكيين، و”ثقل” تلامذة الغزالي المقربين.

تجلت فيه متقابلات كما يتصور البعض، فهو الأزهري التراثي الذي حقق “المحصول” للرازي، وغاص من أجل تحقيقه في ما يقارب ألف كتاب كما يقول هو، وهو تلميذ خاتمة الأصوليّين الأزهريّين بدون منازع الشيخان مصطفى وعبد الغني عبد الخالق، ومع ذلك لا يقول بحد الردة ولا بالرجم..!!

وهو العراقي الذي عاش فترة أهلت كثيرين من أقرانه لسلوك طريق التنظيمات، سرية أو علنية، لكنه تأبى عليها، منطلقا من رؤية مفادها أن أربعة يجب أن يكونوا ملكا للجميع القاضي والجندي والشرطي وعالم الدين إضافة لرجالات الدولة.

من الأزهر قلعة التراث كانت البداية، وفي عقر دار السلفية كانت عشر سنوات بجامعة الإمام مُحَمَّد بن سعود الإسلاميَّة، وفي عضوية المجامع الفقهية ورئاستها وما تضمه من خليط المذاهب كانت الانطلاقة..

كان العلواني صريحا مع نفسه حينما حدد طريقه وعزم على عدم الانتماء لأي من الحركات والتنظيمات

وفي جامعة قرطبة بولاية فيرجينيا الأمريكية مؤسسا ورئيسا كانت محاولة تحقيق الحلم.. حلم تدريس العلوم الشرعية بطريقة ربما تكون مختلفة، وفي رئاسة المعهد العالمي للفكر الإسلامي بعد رحلة طويلة في قيادات التجديد جمال الدين الأفغاني، وآية الله النائيني، ومحمد عبده، ورشيد رضا وانتهاءً بصداقة وثيقة للغزالي كان المستقر ثم في شقته الكائنة في حي الزمالك بالقاهرة كان المقام الدائم الذي لم يرض به بديلا إلى الآن، يصارع الأفكار وتصارعه الأفكار.. حتى أجبرته على أن يقول: “ويل للمفكر من الفكر”.

حياة حافلة، وخليط من الأفكار إذن هو الفقيه الأصولي الدكتور طه جابر العلواني، يستحق الإبحار في عالمه.. ومحاولة فهم طبيعة تلك الشخصية التي يراها كثيرون من زوايا مختلفة.. لكنه يبقى هو هو.. حتى ولو رآه الآخرون بأية صورة!!


الحكاية من البداية

المولد كان في 1935م، والمكان كان في “الفلوجة” العراقية، والفترة كانت من فترات مخاض للأمة بأسرها، حيث نمو المشروع الصهيوني، وفجيعة انهيار الخلافة وما ترتب عليها من استعمار ومحاولات تحرر..

من 1935 وحتى 1953 عام مجيئه للأزهر بالقاهرة ليبدأ حياته الحقيقية، كان العلواني يتشكل داخل البيئة العراقية بكل ألوانها وأطيافها المتعددة، تعلم في كتاتيب الفلوجة ( الملا) وفي المدارس الملحقة بالمساجد، ثم انتقل إلى بغداد ليدرس على علمائها أمثال الشيخ العلم أمجد الزهاوي، والشيخ قاسم القيسي مفتي العراق وقتها، والشيخ الآلوسي وغيرهم.. ويبدو أن ما ظنه البعض تناقضات في شخصية الرجل يعود في جزء كبير منه إلى اختلاف روافد التلقي الأولى لدى الفتى العراقي، فمن شيخه بالفلوجة الذي رباه أربع سنوات جعله فيها شديد المحافظة يرى “كشف وجه المرأة من الكبائر”، إلى شيخه الزهاوي الذي علمه كيف يكون واسع الأفق كطبيعة الفقه الحنفي الذي يحمله الشيخ الفقيه المحامي!

ويبدو أيضا أن حاسة النقد تولدت لديه من هذا الاختلاف في مصادر تلقيه، فبينما يتجاهله شيخه “الفلوجي السامرائي” عندما رآه عند الزهاوي في بغداد يلبس بنطالا تحت الجبة، إذا به يرى الزهاوي ذاته لا يلقي بالا لمثل تلك المسائل.. حسب واقعة يرويها العلواني في ذكرياته عن تلك المرحلة.

فما اعتاده العلواني إذن مما يقرب أن يكون ثوابت عند شيخه في القديم ينهار شيئا فشيئا مع شيوخ جدد أوسع علمًا، وأكثر انفتاحًا، فبان للفتى من البداية أن ليس أمام العلم مقدس إلا الكتاب وصحيح السنة!!

ومن هنا أصبح للثوابت في عرفه معنى آخر، وللمقدس فلسفة مغايرة.. فالأشخاص متبدلون فلا ثوابت منهم ولا قدسية لهم.

شخصية نقدية كالعلواني اعتادت على التفكير والسؤال عن العلل ومحاولة الوصول إلى أعلى درجات اليقين في كل ما يعرض عليها

المهم أن الشاب العراقي وفد إلى القاهرة.. إلى الأزهر قلعة التراث والنور في العالم الإسلامي، وقبلة العلماء وطلاب العلم، ولحدث وفوده معنى يؤكد على طبيعة الرجل التي صنعتها الأقدار، حيث رافق في مجيئه للقاهرة شيخه الزهاوي المعروف بعلمه وفقهه ومكانته بين علماء الأمة على رأس وفد من العلماء أتوا للقاهرة استحثاثا للهمم على نصرة الفلسطينيين، وترتيبا لمؤتمر القدس الذي كان مقررا عقده في المدينة المقدسة في هذا العام.. وكأن العلواني الشاب من البداية يدخل إلى صميم قضايا “الأمة” وما تفرضه من تبعات على كل مرحلة من مراحل حياته..


حركيّ الفكر أمّتيّ الانتماء

ونقصد بحركيّة الفكر ، تلك المعانقة التي لا تنتهي بين أسئلة المفكر والفقيه وتغيرات الواقع، فتتحرر الذهنية مع تلك الأسئلة من أسر التقليد إلى براح التجديد، ولعل هذا أهم درس استفاده العلواني من شافعيّته ، التي يعتنقها مذهبا ومنهجا، وحبًا للإمام الشافعيّ يجعله يذكر اسم الشافعيّ مقرونًا بـ «رضي الله تعالى عنه» لا تقليدا حرفيًّا، أما حركيّة التنظيم فربما تصبح خانقة للمبدعين أو المجددين، وكم من فقيه حبسه تنظيمه وحزبه عن الجهر بالأفكار.. ولذا فإن العلواني يحرص كثيرا أن يصف نفسه بأنّه «أمّتيّ. »

وبالتالي كان العلواني صريحا مع نفسه حينما حدد طريقه وعزم على عدم الانتماء لأي من الحركات والتنظيمات، ووجه لها كلّها نقدًا علميًّا شديدًا في كتابه «أبعاد غائبة عن فكر وممارسات الحركات الدينيّة»، ولعل هذا مما يسهم في تجلية طبيعة الرجل العقليّة والنفسيّة.

فالفرد داخل الجماعة في بعض الأحيان عليه قبول ما لا يستسيغه عقله بنسب متفاوتة، حسب مبدأ السمع والطاعة، وشخصية نقدية كالعلواني اعتادت على التفكير والسؤال عن العلل ومحاولة الوصول إلى أعلى درجات اليقين _حسب ما تعتقد_ في كل ما يعرض عليها، لا يمكن مطلقا أن تصلح داخل تنظيم هذا تصوره، وتلك بنيته..

فللتنظيمات حسابات أخرى.. خاصة في تلك الفترة التي كان لتلك التنظيمات طبيعة فرضتها طبيعة الأنظمة الحاكمة، والسياق العام من استعمار وخلافه.

أربعة عناصر لا يجوز لها أن تنتمي إلى أية أحزاب: القاضي والجندي والشرطي وعالم الدين

يحكي عن بداية معرفته بالتنظيمات فيقول: ” في عام 47 أو 48 تقريبا، وفي يوم أخذني أخي معه وخرجنا إلى سوق المدينة، رأيت دكانا صغيرا مكتوب عليه «جمعية الأخوة الإسلامية»، وهي جمعية عراقية يرأسها شيخ أزهريّ مع الشيخ الصواف، فلما دخلنا وجدتهم يعرفون أخي، ووجدت عندهم كتبا لفتت نظري، كما وجدت مجلة “المسلمون” التي كان يحررها سعيد رمضان ومجلة “الأخوة الإسلامية” التي كان يصدرها الشيخ الصواف، كما وجدت رسائل لحسن البنا رحمه الله، وجمعوا لي مجموعة لأقرأها فرأيت كلامًا طيبا لم يعلمنا الشيخ إياه، ولعله لا يعرفه فبدأت أتعامل مع الموضوع بهدوء، لأن شيخنا كان قد نبهنا ألا ننحاز إلى صوفيين ولا سلفيين، وألا ننتظم في جماعات وجمعيّات من هذا القبيل، فـ “العالم” – حسب شيخنا – يفترض فيه أن يكون محايدا، ولا يتحيز لفئة من فئات الناس، لأنه يصلي بالناس جميعا، والجامع لجميع المسلمين..” فلا ينبغي أن ينحاز الإمام إلاّ للأمّة كلّها.

ويعلل ذلك قائلا: “وما زلت أرى صواب هذا، وأرى أن أربعة عناصر لا يجوز لها أن تنتمي إلى أية أحزاب: القاضي والجندي والشرطي وعالم الدين، إضافة إلى رجال الدولة لا يجوز أن ينحازوا لأي فريق مهما كان ذلك الفريق، إلا الأمة بمجموعها وبما تمثل، لأن هذه مؤسسات للأمة كلها.. فإذا انحاز الإمام إلى فئة سوف ينحرف بالمؤسسة كلها، سينحرف بالمسجد، ويجعله مسجد سلفيين، أو صوفيين، أو إخوان، أو تحرريين، ويحرم الآخرين منه كما هو حاصل في بعض الأماكن، وهذا لا يجوز..”

الأمر إذن فوق أنه طبيعة شخصية فهو ناتج عن رؤية ربما توافقت مع تلك الطبيعة، ولا يعني ذلك انتقاصا من المنتسبين أو اتهاما لهم بشكل أو بآخر.