شكلت مرحلة الفتوحات بقيادة عقبة بن نافع الفهري في مرحلتيها،)الأولى بين50ه و 55ه والثانية بين 62ه و64ه(، منعطفا حاسما في تاريخ الفتوحات لبلاد المغرب بحيث اعتبرت التأسيس الفعلي لتواجد الإسلام في المنطقة.فقد كان أول من وضع أسس الاستقرار بالمنطقة من خلال تأسيسه لمدينة القيروان سنة50ه، وبالتالي تجاوز الخطة الحربية السابقة التي كانت تقوم على عدم الاستقرار و الاكتفاء بالهجوم ثم العودة إلى مركز العمليات بمصر(1) ،كما كان أول من توغل في بلاد المغرب إلى أقصى الغرب عند المحيط الأطلسي،  حيث جال في المنطقة شرقا و غربا،  وتمكن من التعرف على تضاريسها ومسالكها بشكل دقيق، جعلته  يمنح  المسلمين خريطة جغرافية مفصلة عن المنطقة والتي كانت مجهولة قبله .

 ورغم اعتراف الجميع بالأهمية القصوى لفترة ولاية عقبة بن نافع في المغرب ودورها الأساسي في التحول الحضاري الذي عرفته المنطقة، فإنها مع ذلك  أثارت مجموعة من القضايا الخلافية غير المنتهية حول إنجازاته، و التي اتخذت منحى سلبيا على العموم عند تقييمها. و سأحاول في هذه الدراسة مناقشة مجموعة من القضايا التي أثيرت حول مسيرة عقبة بن نافع في بلاد المغرب من خلال منهجية القراءة التركيبية للنصوص مع استحضار آلية النقد بشكل دائم ،وبحكم طبيعة الموضوع فإنني لن أتوقف عند الأحداث التفصيلية إلا ما يقتضيه السياق.

القضية الأولى، مقتل عقبة و حقيقة مقاومة البربر

من المعروف لدى المطلعين على التاريخ المغربي أن بعض المصادر التاريخية تجعل من إهانة عقبة بن نافع لكسيلة  زعيم قبائل أوربة البرنسية السبب الرئيس في انقلابه على العرب الفاتحين وطردهم من القيروان، ولم تذكر سببا آخر لهذا التغيير المفاجيء. وجل الباحثين العرب المعاصرين وغيرهم اعتمدوا على هذا الخبر في تفسير هذا الموقف، وحاول بعضهم دعمه من خلال ربطه  بالسياسة العامة التي نهجها عقبة تجاه البربر، القائمة على العنف والشدة والاحتقار، وبحسب رأي أحدهم فقد”أثار عنفه وشدته واحتقاره للبربر وأشرافهم على ما يبدو حميتهم وجعلهم يسعون إلى لم شملهم لمواجهة المسلمين”([1])، و تقر أغلب هذه البحوث أن عقبة ارتكب خطأ فادحا بإساءته معاملة كسيلة الأوربي ومحاولة إذلاله بعد أن كان أبو المهاجر يتألفه ويداريه([2]).

 بيد أن هذه البحوث عند تناولها لهذه القضية يغيب عنها الحس النقدي، وتخضع كلية  لهذه الرواية دون أدنى تحفظ، والصحيح أن  انقلاب كسيلة اجتمعت فيه عدة أسباب وهو ما سنحاول إثباته الآن.

أما عن الإهانة فقد أوردتها جل المصادر وبنفس الصيغة تقريبا، لكن الدراسة المتفحصة والمتأنية لهذه النصوص تظهر ميلها في خطها العام إلى المبالغة، وحتى نعيد الصورة إلى حجمها الطبيعي علينا الرجوع إلى البداية لصياغة الأحداث من جديد.

نعلم أن أول لقاء بين العرب وكسيلة الأوربي كان على عهد أبي المهاجر(55ه-62ه)، الذي عندما وصل إلى علمه أن هناك تحالفا تشكل في نواحي تلمسان بين”أوربة وبعض الروم([3])،”توجه إليهم وتصادم معهم عسكريا واستطاع الانتصار عليهم وأسر كسيلة.  فقام أبو المهاجر انطلاقا من سياسته التي نهجها والقائمة على التقرب من البربر ومحاولة تأليف قلوب زعمائهم، بتقريبه إليه وتعامل معه برفق ولين، وخلق معه شبه تحالف، ضمن به حياد جزء من البربر، في المواجهة الأساسية التي ارتضاها مع البيزنطيين.

نستنتج من ذلك أن كسيلة كان على علاقة قوية مع البيزنطيين، ونظرا لانقلاب موازين القوى ارتأى أن يتقرب إلى العرب ويجاري سياسة أبي المهاجر مادام أنها لم تعرض مصالحه ومصالح قبيلته للخطر، بمعنى أنه رأى في سياسة أبي المهاجر استمرارا للتقاليد التي سار عليها الرومان مع زعماء بعض القبائل البربرية، والقائمة على الولاء مقابل حماية وضمان امتيازاتهم([4]).

لكن بعد عودة عقبة بن نافع لحكم المنطقة تغيرت الأمور وظهرت سياسة جديدة تنسجم وتفكيره القائم على محاولة إخضاع جميع القبائل إلى الإسلام دون محاباة لهذه على تلك أو هذا الزعيم على ذاك، لذلك في حملته على المغرب لا نجد ذكرا لكسيلة، إلى أن تخبرنا المصادر بخروجه واعتراضه لطريق عقبة في تهودة .

والظاهر أن عقبة منذ دخوله القيروان لم يحفل بهذا الشخص، فتتفق جميع المصادر على أنه ضايق واعتقل أبا المهاجر ووضع الحديد في يديه، ولكنها لا تذكر شيئا عن كسيلة، وما يستنتج من النصوص  أن كسيلة لم يتعرض للاعتقال، حيث ظل موجودا في جيش عقبة  حرا طليقا يتصرف كما يشاء، غير أن القائد أهمله ولم  يحفظ  له نفس المكانة التي من المفترض أن يحصل عليها باعتباره حليفا للعرب، وهنا أتى انتقاد أبي المهاجر له. أما قصة سلخ الأكباش فيمكن التحفظ في قبولها لسببين:

السبب الأول: يتعلق بالمصادر حيث نجد بعضها لم يشر إطلاقا إلى هذه الحكاية وعلى رأسهم ابن عبدالحكم، ولا يمكن تبرير ذلك فقط بالسهو والنسيان، فحدث مقتل عقبة يعد من الأمور الجليلة التي لا يمكن إهمالها، وإنما الراجح أن  الرواية التي اعتمدها لم تذكر شيئا عن هذا التبرير .وكذلك لم يشر ابن عبدالحليم  بدوره إليها إطلاقا، والذي بالمناسبة لا يذكر جميع المبالغات التي تنسب لعقبة سواء ما يتعلق بالكرامات أم ما ينسب إليه من عنف وقسوة غير  معقولة، وهذا ما يعزز تحفظنا على هذه الرواية التي ظاهرها المبالغة الشديدة والوضع في التفاصيل([5]).

السبب الثاني: من الصعب القبول  بأن شخصية عقبة القيادية، التي عاشت  في مجتمع قبلي وتعرف جيدا القيمة المعنوية والرمزية لشيخ القبيلة، تقع في هذا الخطأ الفادح، وما يستتبع أي محاولة  للحط منها من كوارث، وكان أحسن العارفين بأن البربر يشبهون العرب في هذه النقطة بشكل كبير جدا، وبالتالي من الصعب أن يقدم على هذه الخطوة الساذجة.

صحيح أن شخصيته كان يغلب عليها النزعة العسكرية، ولكن في المقابل لا يعني ذلك غياب البعد السياسي كلية فيها، فتأسيس القيروان يدل على بعد النظر السياسي والحضاري للرجل وليس العسكري فقط، واستقدامه للبربر في جيشه يدل على ذلك، أيضا تعامله السلمي مع القبائل التي لم تحمل السلاح كما رأينا في حملته على المغرب الأقصى ،فالرجل كان عسكريا بامتياز ولكن كان أيضا سياسيا.

وما يعزز رأينا في أن كسيلة كان حرا طليقا أثناء مرافقته لحملة عقبة، أن جل المصادر تتحدث أنه تلقى رسائل من قبل الروم، فلو كان سجينا أو معتقلا لما تسنى له مراسلتهم، خاصة أن الحراسة ستكون مضروبة عليه، وما يعزز كذلك هذا الرأي أن هذه الروايات نفسها  تذكر أن أبا المهاجر لما لاحظ إهمال عقبة لكسيلة وإهانته، حسب الرواية طبعا، انتقده وطلب منه مراقبته والاحتياط منه واعتقاله ([6])، غير أن القائد لم يهتم بذلك وتركه يتحرك بكل حرية، مما سهل عليه مأمورية عقد تحالف مع الروم، وفي المكان المناسب فر من الجيش  ليلتحق بالتحالف الجديد القديم([7]).

ومن أجل فهم أشمل لحركة كسيلة وقبيلته أوربة يجب أن نلاحظ المنطقة التي وقع فيها الحدث، وهي منطقة نوميديا، حيث كانت من أهم المناطق تأثرا بالحضارة الرومانية، ومعايشة  لنموذج التحالف مع بعض زعماء البربر والرومان، الذي كان في بعض الأحيان يضمن الاستقرار وفي بعض الأحيان كان يؤدي إلى قيام الثورات بسبب اختلافات معينة. والأساسي في كل ذلك أن هذه المنطقة ورثت تقاليد سياسية قديمة، قائمة على التحالف مقابل خدمات متبادلة([8])، وأي خرق لهذه المعادلة كان يؤدي مباشرة إلى الصراع و الفوضى.

فلو رجعنا إلى أحداث الفتوحات سنجد أن العرب لم يواجهوا البربر في البداية وإنما البيزنطيين فقط، لذلك لم نلاحظ أي تحرك من جانبهم ضد العرب، لأن الحركة لم تستهدفهم مباشرة. وفي المقابل ستسجل أول مواجهة معهم أثناء حملة أبي المهاجر الذي استطاع بحنكته السياسية أن يفهم طبيعة العلاقات التي كانت قائمة بين البربر والبيزنطيين لذلك حاول أن يستفيد منها بتحويل اتجاهها نحو العرب، عن طريق التحالف مع زعماء البربر لتحييدهم ومحاولة استقطابهم بهذه الطريقة، لكن التصادم العنيف سيكون مع عقبة الذي ارتأى عدم مراعاة تلك التقاليد، التي كانت تعبر عن نظام قيمي مرتبط بالحضارة الرومانية، بل تحطيمها كليا وإحلال النظام القيمي الإسلامي محلها، وهنا تحرك كسيلة لمواجهة الخطر المحدق به وبنظامه القيمي، ولذلك اعتبر انتصاره  انتصارا للنظام الحضاري الروماني([9]) أكثر منه انتصارا للبربر الحاقدين على عنف عقبة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تجلى ذلك في حملة عبد الله بن سعد بن أبي سرح27ه ، ومعاوية بن حديج سنة45ه

([1])  سعدون نصر الله،  تاريخ العرب السياسي في المغرب، دار النهضة بيروت، 2003، ص : 40

(2)  عمر فروخ، العرب والإسلام في الحوض الغربي من البحر الأبيض المتوسط، دار الكتاب العربي، بيروت،  ط 2، 1401هـ -1981، ص :65.

(3)  انظر الناصري،الاستقصا لأخبار المغرب الأقصى،ج1،منشورات وزارة الثقافة والاتصال،الدار البيضاء،ص92، الباجي، الخلاصة النقية، مخطوط تحت رقم  باج 920.61 ،كلية الاداب العلوم الانسانية،الرباط، ص :5

(4)  يبدو أن أبا المهاجر عاد إلى تفعيل مبدأ المؤلفة قلوبهم الذي كان أوقفه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد رأى أن الواقع في بلاد المغرب يقتضي ذلك، أما عقبة بن نافع فقد تشبث بموقف سيدنا عمر واقتنع أن ليس هناك ما يستدعي إعادة تفعيله في بلاد المغرب.

(5)  Gautier, les siecles obscurs du maghreb, édition Payot, Paris 1927,  p.244

(6)  ابن الأثير، الكامل في التاريخ،مجلد4،دار صادر،بيروت1997، ص107، النويري،نهاية الأرب في فنون الأدب،جزء تاريخ الغرب الاسلامي في العصر الوسيط،تحقيق مصطفى أبو ضيف أحمد،دار النشر المغربية،الدار البيضاء ، ص193، الناصري، المصدر السابق، ص193

(7)  Yves mederan, les maures et l’afrique romaine, édition école française de rome, 2003. P.973.

(8)  يعد تحالف مسينيسا مع الروم  للقضاء على الحضارة الفينيقية أحسن مثال على ذلك.

(9) Gautier, les siècles obscurs, p.243.