يعد شيخنا وعالمنا الإمام المجدد محمد الغزالي، العالم العامل العابد، والمجاهد الصادق، الإنسان المصري الذي عربه الإسلام، هو الأب الحقيقي لأجيال كثيرة أتت وستأتي من أبناء أمتنا العربية العربية المسلم، يوغلون في الدين برفق، ويجهدون أنفسهم و يجاهدونها ويجاهدون بها، وبأموالهم في سبيل بعث جديد لأمتنا يخرجها من تيه التراجع إلي جادة الطريق ومحجته البيضاء، حيث شهادتها وشهودها علي العالمين..
فقد شغل الغزالي عمره كله، وسخر قلمه ووقته وعلمه وماله وخبراته، التي تراكمت بمرور السنين، وتنوع البلدان التي زارها، داعيا للدين، ومدافعا عن الدعوة، وفي إعادة التفكير في الإسلام وأحوال المسلمين في العالم المعاصر .وكانت قضية النهوض بالمرأة المسلمة شغلا شاغلا له طيلة جهاده المبارك.
في هذا المقال نطل إطلالة سريعة على رؤية الغزالي لقضية المرأة بين واقعه الذي عاشه، وكتاباته التي سطرها في هذا الموضوع. فالناظر في حياة الغزالي كما رواها في “قصة حياته”، وأحاديثه عن أسرته ونشأته، وفي كتاباته التي خلفها في قضية المرأة يجد توافقا تاما بين ما عاشه شيخنا الجليل وما كتبه، شأنه شأن كل حياة شيخنا الكبير.
جزء حي من مجتمع حي
يؤكد شيخنا الجليل أن” أي مطالع للقرآن الكريم و السنن الصحاح يرى المرأة جزءا حيا من مجتمع حي، فهي تتعلم وتتعبد وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتجاهد-إذا شاءت-في البر والبحر، وتؤخذ منها البيعة على معاقد الإيمان والأخلاق، وتعارض الحكم أو تؤيده”.
آية اكتمال الرجولة
يشدد شيخنا الجليل-رحمه الله- على أن” التلطف مع الإناث والرفق بهن، آية اكتمال الرجولة وتمام فضائلها، وهو أدب يبذل للنساء عامة سواء كن قريبات أم غريبات، كبيرات أم صغيرات، مع استقامة الفطرة الإنسانية قلما يتخلف هذا المسلك العالي.
إنسانان متكافئان
ومن منطلق هذا الفهم السليم لوضع المرأة في الإسلام يؤكد عالمنا الجليل “إن الزوج والزوجة إنسانان متكافئان في الحقوق والواجبات، ومع صدق العاطفة يكون الرجل ملكا مطاعا نافذ الكلمة، ووسيلته في ذلك الوفاء والإخلاص والحب”
وإذا قارننا هذه الرؤية للمرأة، بما كانت عليه حاله في إدارة أسرته نجده يقول””كنا أسرة مثالية.. ولا أحب أن أكون ديكتاتوريا في بيتي، ولكن بالنظرة الرقيقة ألبي فيما أطلب وأجاب إلى ما أحب، ولم يكن في أسرتنا سوى المودة والرحمة..
شركة مادية وأدبية
الزواج -كما يؤكد شيخنا- شركة مادية وأدبية، والأسرة”هي الكهف الوحيد الذي يجمع بين رجل وامرأة، ومن ثم فإن تكوينها دين، والحفاظ عليها إيمان، ومكافحة الأوبئة التي تهددها جهاد، ورعاية ثمراتها من بنين وبنات جزء من شعائر الله”(6). (ف)”الزواج ليس عشق ذكر لمفاتن أنثى..! إنه إقامة بيت على السكينة النفسية والآداب الاجتماعية، في إطار محكم من الإيمان بالله والعيش وفق هداياته، والعمل على إعلاء كلمته وإبلاغ رسالاته
وإذا نظرنا في حياة الغزالي كما عاشها سنجده ينفذ ما يقوله واقعا” كنا أسرة مثالية، تعامله مع أولاده أساسه التراحم والتعاون.. لم يكن في أسرته سوى المودة والرحمة..وليس بينهم إطلاقا ما يمكن أن يكون مثار شكوى..وأحيانا كان يساعد(زوجته) في أعمال المنزل بكل محبة ولا حرج، وتلك سنة رسول الله-ص-وكانت صلته بزوجته صلة ود مشترك، وكان يضيق لو أنها عانت من الواجبات التي تتحملها أكثر مما تطيق”.
وظيفة البيت الأولى
يشدد الغزالي في كتاباته على أن وظيفة البيت الأولى هي”الحفاظ على الإيمان والعبادة والخلق الشريف والمسلك القويم والتقاليد الراشدة والمثل العالية، والأبوان شريكان في أداء هذه الوظيفة، ونصيب الأم منها ضخم ثقيل”.
وهو يحدثنا عن نهجه لتربية أبنائه على هدي هذه الوظيفة فيقول ” أنا طبيعي، وعشت عيشة طبيعية، لا أعرف التكلف وأضيق به، وقد ربيت أولادي على المصارحة والهدوء، ومواجهة الأمور بحكمة وأدب، والله سبحانه وتعالى جعل ثمرة هذا المنهج الذي هداني إليه، أن الجميع يعيش الآن عيشة حسنة ..نحن نعيش كأسرة ولسنا”مجلس الأمن” ..أنا لا أتدخل في توجيه مستقبلهم العلمي، وكل الذي يهمني ويعنيني أن يلتزموا بالأخلاق الدينية، أما رغباتهم فهم أحرار فيما يرغبون فيه، وعند زواج أبنائي، هم الذين بحثوا لأنفسهم وأنا تابعت البحث، ووافقتهم على ما أرادوا”.
الرجل الحقيقي
يؤكد الغزالي في كتاباته على أن الرجل قيم على بيته يقينا، وهذه القوامة تكليف قبل أن تكون تشريفا، وتضحية قبل أن تكون وجاهة.. ثم انظر إليه وهو يتحدث عن كفاح زوجته معه، وكيف قابل هذا الكفاح بالإحسان كأحسن ما تكون القوامة الحقيقية للرجل المسلم” لقد عشت مع زوجتي ثلاثين سنة كأسعد زوجين في الدنيا، عشت معها عيشة حسنة، كانت سيدة من أحسن من يقابل عباد الله.. وكافأتها على رضاها بفقري، فأسكنتها الغرف، وأذقتها الترف، وجعلتها تدوس الحرير والذهب… ثم فارقت الدنيا على غير انتظار، فبكيتها من أعماقي..رحمها الله أوسع رحمة، ورفع درجتها في عليين..
معالم البيت المسلم
يقيم الغزالي رؤيته للبيت المسلم على ثلاثة معالم ينبغي أن تتوافر فيه، أو أن تظهر في كيانه المعنوي ليؤدي رسالته ويحقق وظيفته..هذه المعالم الثلاثة هي: السكينة والمودة والتراحم… وعندما تقوم البيوت على السكن المستقر، والود المتصل، والتراحم الحاني فإن الزواج يكون أشرف النعم، وأبركها أثرا .وسوف تتغلب على عقبات كثيرة، وما تكون منه إلا الذريات الجيدة.
وعندما نقارن ما كتبه الغزالي بحياته الشخصية نجده يقول “كنا أسرة مثالية، تعاملي مع أولادي أساسه التراحم والتعاون، ولا أحب أن أكون ديكتاتوريا في بيتي.. أنا طبيعي، وعشت عيشة طبيعية، لا أعرف التكلف وأضيق به، وقد ربيت أولادي على المصارحة والهدوء، ومواجهة الأمور بحكمة وأدب، والله سبحانه وتعالى جعل ثمرة هذا المنهج الذي هداني إليه، أن الجميع يعيش الآن عيشة حسنة.
البيوت السعيدة
البيوت المستقرة السعيدة-وحدها كما يؤكد الغزالي- بيوت يمكن أن ينشأ الأولاد فيها وهم أصح الناس نفوسا، لا خصومة بين الوالدين لا شجار لا عراك ولا شيء من هذا..وهو يشير في قصة حياته أنه لم يعرف خصومة بين أبويه ولا شجارا ولا عراك ولا شيء من هذا قط..كان الزوجان كيان واحد(14).. والده كان شديد الحنو على أولاده، كريما في الإنفاق عليهم.. باعت أمه ذهبها الذي كانت تملكه، ليفتح به الدكان الذي كان فيه من جديد عندما عاد مفلسا من الإسكندرية…. فالحياة العائلية بينهما كانت مستقرة استقرارا غريبا..وعندما مات والرجال يحملون جثته، وجد أمه خرجت فجاءة من القاعة، وأمسكت بأقدام الميت من الخارج تقبلها بحرقة، وتريد ألا يخرج، فخرجوا وهي على الأرض تبكي….
وإذا نظرنا لحياة محمد الغزالي في أسرته الصغيرة:زوجته وأبنائه وبناته، سنجد أنه يطبق ما كتبه عن البيوت السعيدة .. وهذا ما يؤكده ابنه علاء في حديثه عنه، فيقول” كان تعامل أبي معنا قائما على التراحم والتعاون، فلم يكن قط ديكتاتورا، بل يستمع ويناقش، ويترك لنا حرية الاختيار، كنا نراه يساعد أمنا في شؤون المنزل بمحبة وبلا حرج”.
وعن بناته يقول ” ماتت لي بنت في جمال أمها..الباقون عندي خمس بنات متزوجات، وبعضهن عمل بالتدريس، وبعضهن بقوا في البيت حسب طلب الأزواج…فأنا أعلم البنات كما أعلم البنين، وأشعر أن تعليم البنت فريضة، ولابد من هذا، ومعاملتي لبناتي كمعاملتي لزوجتي، وكنت دائما أنظر للبنات على أنهن نعمة من الله سبحانه وتعالى.
تقاليد وليست دين
نخلص من مقالتنا المختصرة عن رؤية الغزالي لقضايا المرأة، وما عاشه واقعا مع أمته من جانب، أمه وبناته من جانب آخر، إلى أن المشكلة التي تواجه المرأة المسلمة تتمثل في ” تقاليد وضعها الناس، ولم يضعها رب الناس، دحرجت الوضع الثقافي والاجتماعي للمرأة، واستبقت في معاملتها ظلمات الجاهلية الأولى، وأبت إعمال التعاليم الإسلامية الجديدة، فكانت النتائج أن هبط مستوى التربية وميزان الأمة كلها، مع التجهيل المتعمد للمرأة والانتقاص الشديد لحقوقها.
لقد عاش الغزالي.. قلب يتحرق ..وعاطفة تتحرك للإسلام ..وكان جهاده بالقلم واللسان في مجال المرأة عملا خالصا أثمر تجديدا لحياة المرأة المسلمة، وأنصف الإسلام من غلو الغالين، وانتحال المنتحلين، وباطل المبطلين. وأعاد الثقة للمرأة المسلمة في دينها ونفسها…..
رحم الله شيخنا الغزالي رحمة واسعة فقد عاش عمره من أجل” إعادة الحياة إلى العقيدة الإسلامية لتحتل مكانها في الضمير، ثم إلى الشريعة لترسم خط السير في المجتمع الكبير…لأن هذا هو طريق النهوض الصحيح.