لهذا الكتاب قيمة مزدوجة فهو من جهة يتسم بالفرادة والجدة من حيث الموضوع والتناول، ومن جهة أخرى الكتاب حصيلة تأملات عميقة للدكتور أحمد الريسوني المعروف بعقليته الفقهية ومنهجيته الأصولية وخلفيته المقاصدية مع إسهام عملي في ميادين الفكر والدعوة والإصلاح.

يؤكد المؤلف أن أطروحة الكتاب هي أن الأمة هي الأصل وليس الدولة، سواء من حيث توجه الخطاب الشرعي ابتداء، أو من حيث العموم، أو من حيث الصلاحيات والمسؤوليات، أو من حيث الأولوية والتقديم .وفي هذا كله تأتي الدولة والحكام، والفئات الخاصة والأفراد يأتون تبعا وضمنا.

ويشير  الدكتور الريسوني إلى الضمور والاختلال الذي تعرضت له هذه المعاني في حين أن  النظام الإسلامي والتصور الإسلامي لمكانة الأمة والدولة يؤكد على أولوية الأولى على الثانية وفرعية الثانية وتبعيتها للأولى، وكذلك تبعية الخطاب الفردي للخطاب الجماعي. ويعتبر هذا الاختلال بل الانقلاب في المفاهيم هو الذي أفقد الأمة مكانتها وقدرتها على الريادة والعطاء والإبداع وحولها إلى مجرد ركام ضخم من الأفراد المتفرجين المستهلكين.

ويخلص المؤلف إلى تشبيه الوضع السوي لمكانة كل من  الأمة والدولة بهرم  قاعدته وعامة جسمه هي الأمة والزاوية العلوية الصغيرة التي تمثل رأس الهرم هي الدولة. أما الوضع المختل المقلوب الذي أصبحنا نعيش عليه منذ مدة وإلى الآن فهو الهرم المقلوب، زاويته الضيقة إلى الأسفل وهي الأمة وقاعدته المديدة العريضة هي الأعلى وهي الدولة.

فالأمة في الوضع الأول هي الأساس المتين والجسم الممتلئ والحيز الواسع طولا وعرضا وعمقا، والدولة فيها بمثابة برج صغير للمراقبة والتفقد والتوجيه والتنسيق، وتحتل حيزا ضيقا لكنه مرتفع ومشرف. وفي الوضع المقلوب نجد للأمة حيزا ضيقا وزاوية حادة في أسفل الهرم المقلوب، وفوق هذا الحيز الضيق تنتصب الدولة متضخمة ثقيلة ضاغطة.

بعد التأكيد على الفكرة الرئيسية “الأمة هي الأصل” يعرج المؤلف على جملة من التفريعات ذات الصلة التي تحتاج إلى مزيد بيان وإيضاح، ومن تلك التفريعات قضية الخطاب الشرعي بين الأمة والأئمة، حيث يؤكد على أن هناك الكثير من النصوص التكليفية الشرعية تفهم وتؤخذ عادة على أنها خطاب خاص ومباشر لأولي الأمر من ذوي السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية، أي أنها من شؤون الدولة واختصاصاتها، في حين أن الخطاب أساسا وابتداء للأمة ولجماعة المسلمين، وعن هذا الأصل أو هذه الأصالة يتفرع الاختصاص بقدر ما تقتضيه المصلحة وتمليه الضرورة وبقدر ما تراه الجماعة على سبيل التنظيم والتوكيل والتفويض بحسب الصيغ والتفاصيل المعتمدة أو المتعارف عليها.

ثم يتطرق إلى مفهوم نصرة الدين وحمل رسالته الذي يعتبره الفهم السائد من واجبات الدولة والعلماء بل ويعتبر بعض العلماء أن أداءهم لدورهم في هذا المجال متوقف على الدولة إذنا ومساعدة ودعما، ويعتبر المؤلف هذا الفهم إفسادا لمعاني الدين وقلب لأوضاعه فالدولة قد تكون عاجزة عن التكلف وحدها بهذا الدور وقد تكون غير صالحة أو راغبة في النهوض به. في حين أن التكليف الشرعي بنصرة الدين تكليف للأمة بكل فئاتها .

وحول تغيير المنكر ومقاومة الفساد يؤكد المؤلف أنها وظيفة من وظائف المجتمع والجماعة رغم أنها حوصرت وحصرت ودافع عامة الناس عن ممارستها رغم أن النصوص متضافرة وصريحة في تحميل هذه المسؤولية لعموم الناس رجالا ونساء.

وحول حق الشورى بين العموم والخصوص يؤكد المؤلف أن الشورى شأن من شؤون الجماعة برمتها هي مالكتها وصاحبة الحق فيها وفي تفويضها ،وفي تقييدها وتنظيمها. بخلاف الفهم الشائع الذي يعتبر الشورى شأن من شؤون الحكم والحكام يشركون فيها من يرون أهليتهم وصلاحيتهم  فهي نازلة من الأعلى إلى الأسفل وهو إنزال خاضع لتقدير الحاكمين في كمه وكيفه.

التمكين للأمة أم للدولة

أمة الإسلام لا يليق بها إلا أن تكون ذات سيادة وريادة وتمكين ومكانة وعلى هذا النهج سارت قرونا عدة ملأت فيها العالم نورا وهداية وعدلا ورحمة وكانت الأمة- قبل الدولة وأكثر منها –هي التي تدبر وتدير شؤونها الدينية والثقافية وتحل مشاكلها المعيشية وتلبي حاجاتها الاجتماعية وتنهض بمشاريعها العلمية والتعليمية وتحقق إنجازاتها العمرانية والحضارية، وكانت الدولة تشجع وتساعد وتنظم، وقد تضعف فتصبح عالة على المجتمع وقد تنحرف فتصبح عائقا في طريقه، أو تطغى فتصبح سيفا على رقاب أبنائه، ولكن المجتمع رغم هذا يبقى نشيطا متجددا في طاقاته وعطاءاته. إن التمكين للدولة – في الوضع الصحيح- هو الذي يكون نتيجة وفرعا عن التمكين للأمة، وليس العكس.

وفي موضوع الديمقراطية يسلط المؤلف إضاءات على جملة من الإشكالات المرتبطة بالديمقراطية مثل مقولة “حكم الشعب نفسه بنفسه” ،حيث يبين المؤلف أن حكم الناس من المنظور الإسلامي ينقسم إلى قسمين : هناك ما هو منصوص ومنزل وهناك مجال واسع بل لاحد له متروك لتدبير الناس أنفسهم، و الحياة الإسلامية تسير على سكتين متوازيتين وهما النص والإجتهاد. وحتى المجال المنصوص فيه ما يدخله الاجتهاد في التطبيق والتنزيل . والفرق الجوهري هنا يتمثل في المرجعية حيث يؤكد الإسلام على مرجعية الوحي بينما الديمقراطية ليست لها مرجعية سوى ما يتقرر في الديمقراطية نفسها تثبيتا أو إلغاء.

وفي موضوع مبدأ “الحكم بواسطة الأغلبية” يوافق المؤلف على بأن الأغلبية ليست معصومة وهذا صحيح ولكن ما البديل هل الأقلية معصومة؟ ولذا أخذت الديمقراطية بمبدأ الأغلبية مع ضمان حق الأقلية. ويؤكد المؤلف على أن الاحتكام إلى الأغلبية قد عمل به وأخذ به في تراثنا الإسلامي.

وحول حرية التعبير يؤكد المؤلف أنها تندرج ضمن أولويات الشريعة ومقاصدها وفي إطار من الشعور بالأمانة والمسؤولية والمحاسبة الذاتية، ويشير في هذا الصدد إلى التفسير الجميل الذي منحه علال الفاسي لعبارة (منفكين) في سورة البينة والتي تعني التحرير فرسالة الإسلام هي رسالة تحرير.

وفي محور الإسلام والفنون يقدم المؤلف تكييفا فقهيا لمسألة الفن ويتناول الفنون باعتبارها نوعا من أنواع اللهو والمرح والفنون باعتبارها شهوات وملذات، والفنون باعتبارها نوعا من أنواع التحسينات ،والفنون باعتبارها وسائل معرجا على بعض الضوابط ومستشهدا بجملة من الآراء العميقة لكبار العلماء في عصور مختلفة.