في الماضي وقبل مايعرف بـ  ” محمل الشام ” ، حين كان الأب الذي يعيش في بلدة بعيدة وفقيرة، يطلب من ولده تنفيذ مهمة ما، ويرفض هذا الولد القيام بها، يعترض الوالد عليه غاضبًا، ماذا طلبت منك “هل أردت منك أن تحججني؟!”.. والتحجيج هو من فعل حجَّ أو أدى فريضة الحج، التي كانت تكلّف في السابق، إضافة لعناء السفر ومشقته أموالاً كثيرة، كان كبار السن يجهدون طوال حياتهم لتوفير نفقاتها.

وإن كان هذا الوقت الذي سهّل فيه تطور وسائل المواصلات ونواحي الحياة المختلفة الحج وجعله أمرًا يسيرًا، فإنه في الماضي القريب وحتى مائة سنة ماضية لم يكن بهذه البساطة والسرعة؛ إذ كان الحاج يتكلف مالاً كثيراً، ومشقة سفر تتجاوز الأشهر الأربعة بقليل، إضافة إلى أن مركز انطلاق قوافل الحج كان مدينة واحدة هي دمشق، منها تسير أفواج الحجاج إلى مكة والمدينة، وإليها يأتي معظم المسلمين من آسيا وجنوبي أوروبا، للالتحاق بموكب الحج الشامي الذي كان أميره على مدى أربعة عشر عامًا الوالي “أسعد باشا العظم”، وهو الذي ترك قصرًا في قلب دمشق القديمة، تحتفظ إحدى غرفه بالمحمل الشامي وكل المستلزمات الأخرى التي تستخدم في رحلة الحج منذ مئة وخمسين عامًا تقريبا.

بالشمع والزيت يحتفلون

في كتابه “دمشق في مطلع القرن العشرين” يوضح أحمد حلمي العلاف كيف كانت ترتب شؤون الحجيج أيام الدولة العثمانية، والتفاصيل الدقيقة لكل مراسم محمل الشام بدءاً من الإعداد له مروراً بمسيرته وانتهاء بالاحتفالات التي يقيمها الدمشقيون بعد عودة الحجاج من الأراضي المقدسة، وكانت هذه التفاصيل قد عُرضت في أحد الأعمال الدرامية السورية “الخوالي” لبسام الملا، واتكأت على هذا المرجع لتقديم صورة عن حياة الناس، عاداتهم وطقوسهم في أيام الحج البعيدة تلك.

تبدأ مراسم محمل الشام في اليوم الأول لعيد الفطر، وتسمى “مراسم الزيت والشمع والمحمل”، حيث تصطف الفرق العسكرية أمام المسجد الأموي، وتؤدي التحية لوالي المدينة وقائدها العسكري، وبعض كبار الموظفين، وبعد الانتهاء تجرى حفلة إخراج الشموع والزيوت المهيأة لإرسالها مع موكب الحج إلى الحرمين الشريفين.

في “يوم الزيت” وهو الثاني من شوال كل عام، يتم الاحتفال بنقل الزيت من “كفر سوسة” أحد ضواحي دمشق في الماضي، وهو أحد أحيائها اليوم ضمن ظروف على ظهور الإبل حتى “الكيلار” في البحصة، وهو المستودع الخاص بأدوات محمل الحج.

أما في اليوم الثالث من شوال (يوم الشمع) فينقل الشمع باحتفال رسمي أيضاً، من الدار التي سكب فيها في “كفر سوسة” ووزنه ثلاثة قناطير، وماء الورد من محصول قرية “المزة” – وهو حي المزة المشهور في دمشق اليوم- ووزنه نحو قنطار، والملبس ووزنه عشرة أرطال، ويُحمل الشمع على أعناق الرجال ملفوفًا بالشال “الكشمير” لإهدائه إلى الحرمين، وفي يوم السنجق، يُخرج السنجق الشريف “الراية أو اللواء” وهو كلمة فارسية، من القلعة حيث يُحتفظ به، وينقل باحتفال مهيب إلى دائرة المشيرية، ليستقبله المُشير ويضعه في قصره.

أما اليوم الرابع من محمل الشام فهو (يوم المحمل)، حيث يخرج موكب الحج الشريف مع المحمل والسنجق إلى حي الميدان، ثم باب مصر، ومنه إلى قرية القدم التي فيها قبة جامع “العسالي”، وتحت هذه القبة، يوضع المحمل نحو عشرة أيام، ريثما تنتهي أسباب السفر إلى الحجاز.

التشرف بإمارة الحجيج

يعتبر “آل سعد الدين” من أعرق العائلات الدمشقية، وأكثرها ارتباطًا بطقوس محمل الشام للحج، حيث كان لشيوخ الأسرة السعدية موقعهم المميز في احتفالات المحمل؛ لأن دارهم كانت المحطة الأهم لاستراحة المحمل الشريف، الذي كان شعارًا لسيادة السلطان العثماني على الحرمين الشريفين، يوضع (المحمل) على ظهر جملٍ جميل الشكل قوي وعال لا يستخدم لأي عمل سوى الحج، ويحمل إضافة للمحمل الكسوة السلطانية إلى الكعبة الشريفة، وحين كان المحمل يتوقف في دار سعد الدين يتقدم شيوخ الأسرة ووجهاؤها ليلقموا الجمل قطعًا من اللوز والسكر، فيتهافت الناس على التقاط الفضلات من فم الجمل تبركاً وتحببًا؛ لأنه يحمل أعظم شعار يجتمع إليه المسلمون عند ذهابهم إلى الحج، وبعد وصول المحمل إلى العسالي، ينتظر تجمع الحجاج يومًا أو يومين، حيث تسير قافلة أمير الحج في طريقها إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم.

كانت الدولة العثمانية تتحمل نفقات الحج، وتعهد بإمارته لواحد من كبار العسكريين في دمشق، أو من زعماء العشائر العربية في فلسطين، ويهيأ هذا الأمير للخروج بالحج، قبل حلول الموسم بثلاثة أشهر، فيقوم أولاً بـ”الدورة” أي زيارة المناطق الجنوبية من دمشق لجمع المال اللازم، وقد يكون الوالي نفسه أمير الحج، وهي مهمة صعبة وخطيرة لأن من واجباته أن يدفع عن الحجاج اعتداءات القبائل التي تنوي بهم شرًّا، وقد تولّى أسعد باشا العظم –والي دمشق- إمارة الحج مدة 14 عامًا، وكان الباشاوات في مختلف أنحاء السلطنة العثمانية يتوقون إلى هذا اللقب.

محمل الشام

تتكون قوافل الحج الشامي من عدة فئات تقوم بخدمة الحجاج والسهر على راحتهم وحمايتهم، ولكن من هذه الفئات وظائفها: فالسقاة، كانوا يحملون القرب لنقل المياه من البرك والآبار إلى الحجيج. والبّراكون، هم أصحاب الدواب التي تنقل الحجاج وتكون من البغال والبراذين. والعكّامة وهم أصحاب الجمال والهوادج التي تنقل الحجاج أيضًا، وأصحاب المشاعل، وهم حملة القناديل ومشاعل الزيت، وطائفة أصحاب الخيم، ولكل هؤلاء رؤساء ومعاونون كثيرون، مهيؤون لتأمين راحة الحجاج فأهل حي الشاغور وقصبة دوما للجمال، وأهل الصالحية كان أكثرهم للسقاية والمشاعل وللبراكة، والبياطرة منهم أيضًا، والجنود يخدمون أنفسهم، أما الأمير وأتباعه فإن مئات الأشخاص يكونون تحت خدمته وخدمة معاونيه.

كان أمير الحج يخرج من سراي الحكم “المشيرية أو العسكرية” على رأس موكب الحج بين 15–17 شوال، ويتخذ طريقه: الميدان، مجتازًا باب المصلى، ثم الميدان الفوقاني، إلى باب الله أو بوابة مصر، في ممر يمتد نحو ثلاثة كيلومترات متجهًا إلى قرية مزيريب، وبعد خروج الحج ببضعة أيام “من يومين إلى خمسة” تخرج قافلة الحج الشامي من الطريق نفسه، يتلوها قافلة الحج الحلبي، ومعهم حجاج العجم، ويبقى الجميع في مزيريب حتى يتم خروج الموكب بأجمعه، وكانت رحلة الحج الشامي تستغرق أربعة أشهر من شوال حتى صفر.

الحبوب والمحبوب

بعد انتهاء مناسك الحج، يتجمع الحجاج في المدينة المنوّرة حول المحمل والسنجق ويعودون في نفس الموكب الذي ذهبوا به، وحين يقارب وصولهم إلى دمشق، تستعد الحكومة والأهالي لاستقبالهم باحتفالات كبرى.

وكان معروفًا عند الناس قولهم أثناء مغادرة الحجاز: “يأكلون الحبوب ويفارقون المحبوب”، والحبوب نوع من الحلوى تطبخ فيه الحبوب المتنوعة كالحمص والقمح واللوبياء والفاصولياء مع السكر، وعادة ما يصنع يوم عاشوراء في العاشر من محرّم، والمحبوب هو الرسول صلى الله عليه وسلم.

في العودة، يكون مع القافلة رجل يُدعى “أمين الصر”، والصر هو بعض الهدايا التي كانت توزع على عربان بين الحرمين تملقاً لهم وخوفاً من بطشهم، ويحوي هذا الصر مختلف المتاع من أحذية، ومحارم وهي مناديل قطنية أو حريرية كان بعضها يصنع في دمشق أو تحضر من إستانبول، والعُقل، والعباءات والجوارب. أما “الجوخة دار” أو “جوقة دار” وهي كلمة تركية الأصل تعني فتيان السلطان أو القصر السلطاني، ثم أصبحت الكلمة تطلق على رسول السلطان أو الوالي، فيقوم في الحج بدور الرسول الذي يرسله أمير الحج إلى دمشق ليبشّر الناس بعودة الحجاج قبل وصولهم ببضعة أيام، وينفصل الجوخة دار عن الحجاج في تبوك، يصل قبلهم بسبعة أيام، ويبشر الناس بسلامة الحج ونظافته من الوباء والأمراض والمصائب، وبمجرد وصول الجوخة دار يبدأ الناس بالسفر إلى مزيريب أو غباغب أو الكسوة، حاملين مختلف الأطعمة لملاقاة حجاجهم من أقارب وأصحاب.

أما الدولة فتعين يوماً لاستقبال موكب الحج، يأتي فيه الناس مهللين مكبرين، يصطفون على جوانب الطرق من بوابة مصر في العسالي، إلى دار الحكومة وهي مكان القصر العدلي في دمشق اليوم. وتطلق مدفعية قلعة دمشق عند وصول الموكب عشرين طلقة متقطعة، وفي تلك الأثناء يمر الموكب ثانية في دار آل سعد الدين الذين يناولون جمل الحج اللوز والسكر كما فعلوا عند ذهابه إلى الحجاز.