” ليس من حق الأجيال الحاضرة أن تعطل تراثها الغني عن أداء وظيفته في إقامة نظام للحياة والعلاقات المختلفة، كما أمرها بذلك خالقها؛ على نحو يحقق العدل والسعادة والطمأنينة، كما أنه ليس من حقنا أن ندع هذا الصرح التشريعي الشامخ على ما تركه لنا سلفنا الصالح، بل علينا أن نتابع الجهد في إتمام بنائه، ليلبي حاجة عصرنا كما لبى حاجة العصور السالفة، وعصرنا عصر التطورات السريعة والمثيرة…” (البوطي.. أصول الفتوى وخصائصها)

لعل عبارة الشيخ البوطي رحمه الله تمثل أحد الفهوم النظرية التي تجمع بين نقيضين أحدهما يقدس التراث لدرجة استدعائه في كل شاردة وواردة دون فهم لسياقاته التاريخية والاجتماعية والسياسية والجغرافية حتى، وثانيهما يخلع عباءة التراث بالكلية، متهما إياه بالقصور ومعتقدا وجوب الخروج المطلق عليه ليثبت ما يتوهم من سعة الشريعة ومرونتها، منطلقا في آفاق الواقع دون محاولة لمعرفة جذور ما يعالجه من مسائل فقهية لا بد لها من فهم تاريخي لتكون الرؤية صحيحة…

لكن السؤال: هل تصلح رؤية التوفيقيين وهم كثر من فقهائنا المعاصرين في معالجة تلك الأزمة؟ وهل يمكننا فعلا وضع أطر واضحة لفهم متكامل يحيل التعامل مع التراث وإسقاطه على الواقع إلى سلم تراتبي يجعل ممارسة عملية الفتوى تتم دون تعسف أو افتئات؟

وهل الأزمة أزمة تنظير وتأسيس وتقعيد للتعامل مع التراث أم أنها أزمة ممارسة وحرفية؟ وبناء عليه هل استطاعت مؤسسات الإفتاء في عالمنا الإسلامي بعيدا عن الأفراد أن تتخلص من تلك المعادلة الصفرية.. إما أن تكون مع التراث او ضده؟! وماذا عن الفتاوى التي تصادم مفاهيم عصرية كمفهوم المواطنة والتي تستدعي فتاوى تراثية دون نظر لسياقاتها؟

وللإجابة على هذه الأسئلة ينبغي بداية أن نقرر أن حاضر الأمة أي امة كانت مبني على أمرين:

الأول: ماضيها ومدى تجذره وقدرتها على الإفادة من هذا التاريخ وجعله أداة تحفيز لأجيالها ليتواصل عطاؤها.. وبالتالي فإن الأمم مطالبة باحترام هذا التراث ومحاولة جعله محل تقدير من أجيالها المتعاقبة ليتم البناء عليه في كل جيل..

وثانيها: مدى قدرتها على التخطيط لمستقبلها وإنتاج علوم ومعارف تدخل بها إلى عوالم المستقبل محصنة بتاريخ متجذر وحاضر يحمل درجة من الوعي بكل متطلبات هذا المستقبل..

ومن هنا ولأن عملية الفتوى تعتبر أحد أهم تجليات الحضور الديني في المجال العام، فإنها يجب أن تكون دافعا للتنمية والعمران باعتبارهما مقاصد شرعية حضارية كبرى، ولا يجوز لتلك العملية -الفتوى- ان تكون مقيدة لحركة الحياة مستدعية من التراث ما يقف حائلا دون القدرة على التعامل مع الواقع..

وفي هذا الإطار لابد من التأكيد على أن المدرسة الوسطية السنية قد استطاعت أن تضع أطرا وضوابط للتعامل مع التراث بطريقة تحقق الأهداف سالفة الذكر، وقد حدث هذا في تضاعيف الموروث الفقهي والأصولي داخل تلك المدرسة، بحيث يمكنك أن تلمح قدرة عجيبة على فهم هذا البعد منذ زمن التقعيد داخل تلك المدرسة..

لكن للأسف فإن بعض المنتسبين للفتوى داخل مؤسساتنا الإسلامية والعربية فضلا عن الأفراد الذين نصبوا أنفسهم متحدثين حصريين باسم الدين لا يحسنون قراءة هذا التراث من الأساس، ويصرون على استدعائه في غير موضعه منزوع السياق تحت ضغوط كثيرة.. منها الممالأة السياسية ودخولهم على الخط في تأصيل الصراعات السياسية بأصول شرعية تعسفية إرضاء للأنظمة الحاكمة، أو ممالأة العادات والتقاليد وإرضاء للجماهير!!

وعلى العكس تماما فإن تراثنا الفقهي ذاته به روح متألقة دوما تؤكد على ضرورة التعامل مع ما سبق برؤية واقعية تفهم طبيعة الظرف المكاني والزماني واحوال الناس وتغيرها… ليظهر جليا ان الازمة ليست ازمة تنظير بقدر ما هي ازمة ممارسة…

فحينما يعقد ابن القيم في كتابه الماتع “إعلام الموقعين” فصلا “في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد”، واصفا خطر هذا الفصل وأهمية الفقه المتعلق به قائلا: “هذا فصل عظيم النفع جدا وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقّة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتى به؛ فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد؛ وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها؛ فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث؛ فليست من الشريعة وإن أُدخلت فيها بالتأويل؛…..”. (إعلام الموقعين)

وهذا صريح من ابن القيم رضي الله عنه في طريقة التعامل مع التراث الذي يعتبره هو رحمه الله تراثا.. فما بالنا وقد سبقنا ابن القيم رضي الله عنه بقرون! فهو ومن قبله تراث لنا ولمن جاء بعدنا!

إن الخطأ خطأ ممارسة لا خطأ قواعد.. فحينما تخرج علينا دار الإفتاء المصرية سابقا بفتوى ردا على استفتاء عن حكم الوصية لبناء الكنائس لتستدعي فتوى تراثية تساوي بناء الكنيسة ببناء الحانات والخمارات وتربية الخنازير… أفتكون الازمة أزمة تراث ام ازمة فهم وتأهيل؟!

لقد تعامى صاحب لفتوى عن سياق استدعائه وتغير الزمان والمكان والظروف والأحوال، ونسي أننا في عصر الدولة القومية التي تحكمها قواعد المواطنة التي أقرها النظام الإسلامي العام بعيدا عن تراث مليء بفترات احتلال وصراع أنتجت فتاوى كانت تلائم سياقها وتنفع عصرها ومصرها بحيث لا يجوز مطلقا استدعاؤها بعد ذلك في سياق مختلف..

وهذا ما ذكر طرفا منه الإمام القرافي رحمه الله في كتابه “الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام” (السؤال التاسع والثلاثين)؛ حينما سأل: “ما الصحيح في هذه الأحكام الواقعة في مذهب الشافعي ومالك وغيرهما المرتبة على عوائد وعرف كان حاصلا حالة جزم العلماء بهذه الأحكام؟ فهل إذا تغيرت تلك العوائد وصارت العوائد لا تدل على ما كانت عليه أولا، فهل تبطل هذه الفتاوى المسطورة في كتب الفقهاء، ويفتي بما تقتضيه العوائد المتجددة، أو يقال: نحن مقلدون، وما لنا إحداث شرع لعدم أهليتنا للاجتهاد؛ فنفتي بما في الكتب المنقولة عن المجتهدين؟.

ثم أجاب فقال: “إن إجراء الأحكام التي مدركها العوائد مع تغير تلك العوائد، خلاف الإجماع وجهالة في الدين؛ بل كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد يتغير الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة، وليس تجديدا للاجتهاد من المقلدين حتى يشترط فيه أهلية الاجتهاد، بل هذه قاعدة اجتهد فيها العلماء وأجمعوا عليها؛ فنحن نتبعهم فيها من غير استئناف اجتهاد، ألا ترى أنهم لما جعلوا المعاملات إذا أطلق فيها الثمن يحمل على غالب النقود؛ فإذا كانت العادة نقدا معينا حملنا الإطلاق عليه، فإذا انتقلت العادة إلى غيره عينا ما انتقلت إليه، وألغينا الأول لانتقال العادة عنه، وكذا الإطلاق في الوصايا والأيمان وجميع أبواب الفقه المحمولة على العوائد إذا تغيرت العادة تغيرت الأحكام في تلك الأبواب، وكذا الدعاوى إذا كان القول قول من ادعى شيئا؛ لأنه كان العادة ثم تغيرت العادة، فلم يبق القول قول مدعيه؛ بل انعكس الحال فيه….”

ثم يتخطى الإمام القرافي رحمه الله مجرد تغير العادة إلى التغيرات الناتجة عن اختلاف الجغرافيا ليؤكد انها مرعية في مقام الإفتاء فيقول: “بل ولا يشترط تغير العادة، بل لو خرجنا نحن من ذلك البلد إلى بلد آخر عوائدهم على خلاف عادة البلد الذي كنا فيه؛ أفتيناهم بعادة بلدهم، ولم نعتبر عادة البلد الذي كنا فيه، وكذلك إذا قدم علينا أحد من بلد عادته مضادة للبلد الذي نحن فيه، لم نُفتِه إلا بعادة بلده دون عادة بلدنا”.

ثم قال: “ومن هذا الباب ما روي عن الإمام مالك: إذا تنازع الزوجان في قبض الصداق بعد الدخول أن القول قول الزوج، مع أن الأصل عدم القبض، قال القاضي إسماعيل: هذه كانت عادتهم بالمدينة أن الرجل لا يدخل بامرأته حتى تقبض جميع صداقها، واليوم عادتهم على خلاف ذلك؛ فالقول قول المرأة مع يمينها لأجل اختلاف العوائد، ثم قال: إذا تقرر هذا فأنا أذكر من ذلك أحكاما نص الأصحاب على أن المدرك فيها العادة، وأن مستند الفتيا فيها إنما هو العادة، والواقع اليوم على خلافه، فيتعين تغير الحكم على ما تقتضيه العادة المتجددة” “الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام

فإذا كان القرافي قد حكم بتغير الحكم لتغير الأحوال والعادات تبعا لجغرافية المكان وفطرة اهله، فما بالنا بتغير اوضاع كاملة، كتغير الوعاء الشامل للحالة الإسلامية من حال الخلافة والخليفة إلى حال الدولة القومية، من حال الامة إلى حال العولمة والتأثير والتأثر، من حال دار الحرب ودار الإسلام إلى حال يجعل المسلم مواطنا فرنسيا أو ألمانيا او امريكيا له ما لغيره من حقوق وعليه ما على غير من واجبات..؟!