وهذا من الحقوق العجيبة المثيرة لكوامن الرحمة والشفقة في الناس، وهو مأخوذ من حديث النبي صلى الله عليه وسلم إذ سأله رجل عن اللُّقَطَةِ[1]، فقال: “اعرف وكاءها. أو قال: وعاءها وعفاصها[2]، ثم عرِّفها سنة، ثم استمتع بها، فإن جاء ربُّها فأدِّها إليه”، قال: فَضَالَّة الإبل؟ فغضب حتى احمرت وجنتاه أو قال: احمر وجهه. فقال: “ومالك ولها؟ معها سقاؤها وحذاؤها، ترد الماء وترعى الشجر، فذرها حتى يلقاها ربها”. قال: فضَالَّة الغنم؟ قال: “لك أو لأخيك أو للذئب”[3].

ولهذا فرَّق العلماء بين حالات ثلاث:

 – الحيوان الذي يستطيع الاستقلال بنفسه والحفاظ على حياته، لقوته أو سرعته، كالإبل والخيل والظباء والطيور، إذا كانت في الصحراء.

الحيوان نفسه ولكن إذا كان في المدن والحضر والعمران.

الحيوان الذي لا يستطيع الاستقلال بنفسه ولا الحفاظ على حياته؛ كالغنم والمعز والدجاج وصغار البقر والإبل والخيل.

وخلاصة أقوال العلماء في هذا الموضوع على الراجح منها، أن الحيوان الذي يستطيع الاستقلال بنفسه إن كان في الصحراء يُحْرَم أخذه وتملُّكه، وأجاز بعضهم لولي الأمر أخذها لكي يحفظها لصاحبها، ويجوز أخذها إن كانت في المدينة والعمران بقصد رعايتها وحفظها لصاحبها، ذلك أن المدينة والعمران تكون فيه الحيوانات أكثر تَعَرُّضًا للأخذ، وأقلَّ في درجة الأمان مع كثرة الناس، فلهذا جاز أخذها وحفظها إنْ كانت في العمران، والذي أخذها مسئول عن حفظها ورعايتها لصاحبها ويضمن ما نقص أو تلف منها.

وأما الحيوانات التي لا تستقل بحياتها ولا تستطيع الحفاظ على نفسها، فيجوز التقاطها من الصحراء أو من العمران، والذي أخذها من الصحراء أمامه ثلاثة حلول: إما أن يحفظها ويرعاها ويُعَرِّف بها المدة المناسبة، فإن لم يظهر صاحبها كان له أن يتملكها، أو أن يبيعها ويُعَرِّف بها ويحتفظ بثمنها مدَّة مناسبة، فإذا ظهر صاحبها أعطى له الثمن، وإلا تملَّك الثمن، والحلُّ الثالث أن يأكله، فإذا ظهر صاحبه دفع له قيمة الحيوان.

فإذا كان أخذها من العمران فليس له أنْ يأكلها، بل يحفظها أو يحفظ ثمنها ويُعَرِّف بها المدَّة المناسبة، فإذا ظهر صاحبها أدَّى له حقَّه، وإلا تملَّكه هو[4].

وهذه خلاصة نقاش فقهي مطول مبسوط في كتب المذاهب على نحو يبعث العظمة في هذا الفقه الدقيق الذي اتسع ليحفظ حياة الحيوان ويفصِّل في أحكام تحميه من الضياع أو الفقد أو الهلكة.

ومن أعجب ما وجدناه في هذا المبحث ما جاء في حاشية الدسوقي عن وجوب نفقة صاحب الدار على هرَّة أصابها العمى وهي عنده، ولم تقدر لعماها على مغادرة الدار، قال: “ودخل في الدابَّة هرَّة عميت فتجب نفقتها على مَنِ انقطعت عنده؛ حيث لم تقدر على الانصراف، فإن قدرت عليه لم تجب نفقتها”[5].

فالحمد لله على نعمة الإسلام، وكفى بها نعمة.

ومما يتعلق بحق الإيواء ما هو واجب على الدولة، وهو موضوع “الحِمَى”:

والحمى يشبه الآن لفظ “المحميات الطبيعية” التي يمنع فيها الرعي والصيد، وقد أنشأتها الدولة الإسلامية لرعاية وإيواء الخيل والإبل المخصصة للجهاد، وماشية الجزية والصدقة والزكاة، وحيوانات ضعفاء وفقراء المسلمين، والحيوانات الضالَّة التي تحفظها الدولة حتى يعثر أصحابها عليها[6].

وأول من أنشأ الحمى هو نبينا صلى الله عليه وسلم في النقيع –وهي منطقة قريبة من المدينة- لخيل المسلمين ترعى فيه[7]، وحمى من بعده عمر بن الخطاب رضي الله عنه منطقتي الشرف[8] -وهي من أعمال المدينة- والربذة[9] لرعاية إبل الصدقة[10].

وهذا الأمر موكول إلى الدولة لتحقيق المصلحة العامة، ولا يجوز للأفراد تخصيص مناطق لأنفسهم، ولا حتى للولاة في قول جمهور أهل العلم وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم : “لا حِمَى إلا لله ولرسوله”[11]، ولا يجوز للحكام حماية أرض لأنفسهم بل هو حق مقصور على المصلحة العامة للمسلمين[12]، وهذا ما اتفقت عليه المذاهب الأربعة، ونقل ابن قدامة أنه إجماع الصحابة فقال: “وهذا إجماع منهم، ولأن ما كان لمصالح المسلمين قامت الأئمة فيه مقام رسول الله” [13].

وقد جاء في وصية عمر بن الخطاب لمولاه هُنَيّ الذي استعمله على الحمى قوله: “يا هُني، اضمم جناحك عن المسلمين[14]، واتق دعوة المظلوم فإن دعوة المظلوم مستجابة، وأدخل رب الصُّرَيْمَة ورب الغنيمة[15]، وإياي ونعم ابن عوف ونعم ابن عفان، فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعا إلى نخل وزرع، وإن رب الصريمة ورب الغنيمة إن تهلك ماشيتهما يأتني ببنيه فيقول يا أمير المؤمنين. أفتاركهم أنا؟ لا أبا لك، فالماء والكلأ أيسر علي من الذهب والورق، وايم الله إنهم ليرون أني قد ظلمتهم، إنها لبلادهم فقاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الإسلام، والذي نفسي بيده لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم شبرا”[16].

وهذا دليل على أن الحمى وُضِع للضرورة، ومن أقوال العلماء في شروطه أن يختار بحيث “لا يستضر به من سواه من الناس”[17]، وعلى أنه موضوع لغنم وإبل فقراء المسلمين لا أغنيائهم من أمثال عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان رضي الله عنهما.


[1] اللقطة: ما عثر عليه المرء.

[2] الوكاء: هو الخيط الذي يُشد فيغلق الإناء أو الوعاء، العفاص: هو الوعاء يكون من جلد أو قماش أو غيره.

[3] البخاري (2243)، ومسلم (1722).

[4] انظر: في فقه الأحناف السرخسي: المبسوط 11/9 وما بعدها، والكاساني: بدائع الصنائع 6/200، وما بعدها، السيواسي: شرح فتح القدير 6/125، وما بعدها.

وفي الفقه المالكي: الاستذكار 7/245، وما بعدها، وابن أبي القاسم: التاج والإكليل 6/78، الذخيرة 9/99، وما بعدها، ومحمد عليش: منح الجليل 8/240، وما بعدها، وابن رشد: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل 15/360، وما بعدها.

وفي الفقه الشافعي: الشافعي: الأم 2/230، 4/65، 66، والماوردي: الحاوي الكبير 8/4، 8/5، والنووي: المجموع شرح المهذب 15/271، وما بعدها.

وفي الفقه الحنبلي: المرداوي: الإنصاف 6/295، وما بعدها، وابن قدامة المقدسي: الشرح الكبير 6/321، وما بعدها، والمغني 6/390، وما بعدها، وابن مفلح: المبدع شرح المقنع 5/203، وما بعدها.

[5] الدسوقي: حاشية الدسوقي 2/522.

[6] ابن أبي القاسم: التاج والإكليل 6/3، والحطاب الرعيني: مواهب الجليل لشرح مختصر الخليل 7/604، والنووي: روضة الطالبين 5/292، وابن قدامة المقدسي: المغني 6/185.

[7] ابن حبان (4683)، البيهقي (11588)، وصححه شعيب الأرناءوط في التعليق على صحيح ابن حبان.

[8] الشرف: موضع من أعمال المدينة، الربذة: قرية بينها وبين المدينة ثلاث مراحل.

[9] البخاري (2241).

[10] رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح، انظر: الصنعاني: سبل السلام 3/83.

[11] البخاري (2241).

[12] الشافعي: الأم 4/47 وما بعدها.

[13] ابن قدامة المقدسي: المغني 6/185.

[14] اضمم جناحك عن المسلمين: أي لا تظلمهم، وقيل: هو كناية عن الرحمة والشفقة. ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 6/176.

[15] الصُّرَيْمة (ومثلها الغُنَيْمة) تصغير الصِّرْمَةِ: وهي القطيع من الإبل والغنم، من العشرين إلى الثلاثين والأربعين. ابن منظور: لسان العرب 12/334، والمعنى: أدخلهم المرعى. انظر: ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 6/176.

[16] البخاري (2894).

[17] ابن قدامة المقدسي: المغني 6/185.