لطالما ارتفعت الدعوة بالتجديد والإصلاح؛ سواء أكانت ممن يقتنعون بأن ذلك سنة الله الماضية في الدعوات والجماعات والأمم، أم كانت ممن يتخذون هذه الدعوة البرّاقة- التي قلّما يختلف عليها اثنان- ستارًا لإنفاذ ما يريدون؛ من قراءات مبتسرة وتأويلات باطلة لا تمت للتجديد بصلة..

وبعض الذين ينتمون للفريق الثاني يبالغون في المدى الذي يذهبون إليه، حتى ليصرحون بأن الإسلام يحتاج لإصلاح جذري، وليس مجرد تغيير هنا وهناك، كما فعل مارتن لوثر بمذهبه البروتستانتي في المسيحية الذي فصل فيه الدينَ عن دفة الحياة([1])؛ غير منتبهين للفروق العميقة التي تفصل بين مسار الديانتين؛ سواء في الأصول التي تنبعان منها، أو في التجربة التي اختطّتها كل منهما.

فلم يكن للإسلام يومًا كنيسة تحتكر الحديث باسمه، وتصادر على الآخرين حقهم في الاجتهاد، وتفرض رؤيتها حتى فيما يتصل بعلوم الطبيعة، وتضطهد كل من يخرج على ذلك؛ كما هو الشأن في تجربة المسيحية.. فكيف إذن نساوي بين التجربتين، ونزعم حاجة الثانية لمثل ما احتاجت إليه الأولى؟!([2]).

العجيب أن جمال الدين الأفغاني، وهو أبو التجديد في العصر الحديث، كان قد طالب بإصلاح إسلامي يستفيد من طريقة مارتن لوثر؛ غير أن الأفغاني- كما سنرى- توجّه بدعوته لإصلاح فَهْمِ المسلمين للدين وليس للدين ذاته؛ بخلاف من نادى بعد ذلك بإصلاح “لوثري” للإسلام، بالمعنى الحرفي للكلمة.. فلم يجمع بين هؤلاء والأفغاني إلا التشابه في اللفظ؛ أما المضمون فقد اختلفا اختلافًا كليًّا.

فما مقصود الأفغاني من دعوته لـ”إصلاح إسلامي لوثري”؟

يحكي الشيخ عبد القادر المغربي- وهو أحد تلامذة الأفغاني النجباء- عن حوار دار بينه وبين الأفغاني عن تطور العالم الإسلامي، وأن المسلمين “دخلوا في دور الانتباه واليقظة وضرورة الأخذ بمدنيّة أوروبا، ومقومات حضارتهم المساعدة على القوة؛ وبدأوا ذلك في عاصمة خلافتهم الأستانة.. وأرى أنه لا يمضي عليهم زمن حتى يبلغوا في تقدمهم ما بلغته أمم أوروبا”، على حد قول المغربي([3]).

فلم يعجب الأفغاني هذا “التفاؤل المرح” الذي آنسه في كلام المغربي، وقال له: “إننا معشر المسلمين إذا لم نؤسس نهوضنا وتمدننا على قواعد ديننا وقرآننا، فلا خير فينا؛ ولا يمكن التخلص من وصمة انحطاطنا وتأخرنا إلا عن هذا الطريق”([4]).

ثم رأى المغربي أن يستزيد الأفغاني عن “الحركة الدينية”، التي كان الأفغاني ذهب إلى أن نهوض الأمة الإسلامية متوقف عليها، فقال له: “إن ما قلته أيها السيد عن الحركة الدينية الأوروبية، وما كان من حاجة أهلها إليها؛ لا يهمنا بقدر ما يهمنا أن نعرف نحن معشر المسلمين ما إذا كان مثل هذه الحركة مما نحتاج إليه في نهضتنا، وإصلاح شعثنا؛ إذ إن هنالك فرقًا بيننا وبين الفريقين من حيث الحاجة إليها. إن سوء الحالة الروحية في قارة أوروبا، وضغط التقاليد عليهم، وأخذ رجالها بأكظامهم([5])- كل ذلك ساق لوثر إلى الصخب، وإثارة الشغب، ورفع الصوت بالدعوة إلى الإصلاح الديني الذي ترجمت عنه أنت بالحركة الدينية. أما المسلمون فدينهم ما في القرآن؛ وهو محفوظ من التغيير والتبديل، وليس من شأنه أن يضغط على نفوسنا، ولا أن يعطل حريتنا، وهو جدير بأن يكون سببًا لسعادتنا، وجمع كلمتنا في هذه الأزمنة الحاضرة كما كان سببًا لسعادة أسلافنا وجمع كلمتهم الغابرة؛ ومن ثم، لم أفهم معنى الحاجة إلى (الحركة الدينية) التي تدعو إليها”([6]).

أجاب الأفغاني عن تساؤل المغربي قائلاً:

“إن حركتنا الدينية هي كناية عن الاهتمام بقلع ما رسخ، في عقول العامة ومعظم الخواص، من فهم بعض العقائد الدينية والنصوص الشرعية على غير وجهها:

– مثل حَمْلِهم نصوص القضاء والقدر على معنى يوجب عليهم أن لا يتحركوا إلى طلب مجد أو تخلص من ذل.

– مثل فهمهم لبعض الأحاديث الشريفة الدالة على فساد آخر الزمان أو قرب انتهائه فَهْمًا يثبط هممهم عن السعي وراء الإصلاح والنجاح في نظير ذلك، مما لا عهد للسلف الصالح به.

– فلابد إذن من بعثِ القرآن وبثِّ تعاليمه الصحيحة بين الجمهور، وشَرْحِها على وجهها الثابت؛ من حيث يأخذ بهم إلى ما فيه سعادتهم دنيا وأخرى.

– ولابد أيضًا من تهذيب علومنا، وتنقيح مكتبتنا، ووضع مصنفات فيها قريبة المأخذ سهلة الفهم؛ فنستعين بتلك الكتب والعلوم التي تضمنتها على الوصول إلى الرقي والنجاح.

– ومن الخطأ أن نجعل هذه العلوم مقصودة لذاتها: كعلم النحو والبلاغة مثلاً؛ وهي إنما وُضعت لتكون وسائل لغيرها؛ فالطالب ينفق معظم سِنيّ حياته في الاشتغال بالنحو والبلاغة وحفظ مسائلها، ثم نراه بعد هذا كله لا يقدر على إنشاء مقالة يعبر بها عما يقوم في نفسه من الأفكار والآراء”([7]).

وهنا أفاض السيد في نقد طريقة اشتغالنا في العلوم الموروثة، والإطالة فيها على غير طائل، حتى اهتدى الأجانب عنا إلى لباب تلك العلوم، وترتيب فصولها وأبحاثها، ثم استعانوا بها على تقويم اعوجاجها، ولمِّ شعثهم، وتركونا وراءهم نتخبط في مَهَامِه [صحاري] الحيرة، وفيافي الجهالة؛ ونحن في غفلة عنهم، غير مبالين بما تجره غفلتنا علينا من الضعف وفقد العزة القومية؛ فلابد إذن من (الحركة الدينية)([8]).

أي أن المغربي ينبّه إلى اختلاف المسار التاريخي بين تجربتي المسيحية والإسلام، وبالتالي اختلاف دواعي “الإصلاح الديني” وأُفقه هنا وهناك.. والأفغاني بدوره يؤكد أن نهضة العالم الإسلامي لا بد أن تؤسَّس على “قواعد ديننا وقرآننا”، وإلا لم نتخلص من “وصمة الانحطاط والتأخر”؛ ثم طَرَحَ الأفغاني مجالات للإصلاح تمثل حاجة ملحّة، وثغرات عميقة عمل المصلحون لاحقًا على معالجتها، وقاموا بدور كبير في سدِّ تلك الثغرات.

فالأفغاني وإن كان يدعو إلى “إصلاح لوثري” للإسلام، فإنه لا يقصد من التشبيه إلا التأكيد على جِذْرِيّة الإصلاح، وليس المطابقة بين مسار التجربتين.. وهذا فرقٌ مهم يغيب عمن يرددون الدعوة ذاتها بعد أن أطلقها الأفغاني منذ أكثر من قرن؛ فيرفعون اللافتة دون أن ينتبهوا للمضمون..!

 


([1]) آخر تلك الكتابات ما علّق به القس المصري إكرام لمعي على النقاش الذي دار بين الرئيس المصري وشيخ الأزهر، حين كرر الأول دعوته إلى “ثورة دينية” في أكثر من مناسبة؛ فقال “لمعي” معلقًا على ذلك: “في لقاء مبكر بين الرئيس السيسي وفضيلة الشيخ أحمد الطيب شيخ الأزهر، طالب الرئيسُ الشيخَ بثورة دينية؛ وأعتقدُ أنه كان يقصد ثورة على غرار ثورة الإصلاح الديني التي انفجرت في أوروبا منذ 500 عام”. راجع مقاله بـ”الشروق”، بعنوان: “تعبتني يا فضيلة الإمام”،  27 يناير 2017م

([2]) بل إن أحد الأصوات المثيرة للجدل، وهو د. حسن حنفي، يعترف بتلك الحقيقة؛ فلما سُئل: لماذا لا يحدث إصلاح في الإسلام على غرار إصلاح لوثر في المسيحية أو سبينوزا في اليهودية؟، أجاب: “لأنه لا توجد سلطة في الإسلام، ولا توجد كنيسة في الإسلام؛ فلا الأزهر ولا مشيخة العلماء ولا الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، لا سلطة دينية لهم. فالسلطة الوحيدة هي سلطة العلم، والعلم فردي لأن العلم في رأس العالِم؛ ولذلك لا توجد أي هيئة دينية لها السلطة، وحتى المذاهب الأربعة فهي متعددة. ولذلك لا توجد ثورة كما حدث عند مارتن لوثر ضد الكنيسة في المسيحية، أو عند سبينوزا ضد الكنيس في اليهودية؛ لأن هنالك سلطة دينية في المسيحية واليهودية، أما الإسلام فلا سلطة فيه”. انظر حواره مع موقع “قنطرة”، بتاريخ 20/ 10/ 2014م

([3]) انظر: “جمال الدين الأفغاني”، بقلم عبد القادر المغربي، ص: 97، دار المعارف، كتاب اقرأ، رقم 68، ط2، دون سنة النشر.

([4]) المصدر نفسه، ص: 97.

([5]) أخذ بأكظامه: أي قبض على حلقه ومدارج أنفاسه.

([6]) المصدر نفسه، ص: 101، 102.

([7]) المصدر نفسه، ص: 102، 103.

([8]) المصدر نفسه، ص:  103.