“وما دمنا لا نرى الكتابَ ضرورةً للروح، كما نرى الرغيفَ ضرورةً للبدن؛ فنحن مع الخليقة الدنيا، على هامش العيش، أو على سطح الوجود” هكذا تكلم الأديب الكبير “أحمد حسن الزيات” فلا حضارة بدون كتاب وعلم، وقد احتفى القرآن بالكتابة، فكان أول سورة نزلت هي “اقرأ” وثاني سور القرآن نزولا هي سورة “القلم”، فبينهما العلم والمعرفة.

والثالث والعشرين من ابريل من كل عام مناسبة مستحدثة في عالم الثقافة، حيث اتُخذ  منذ العام 1995 يوما عالميا للكتاب، تحتفل فيه منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة “يونسكو” بالكتاب والمؤلف، وتم اختيار هذا اليوم تحديدا لأنه ولد أو توفي فيه عدد من الكتاب المؤلفين العالميين أبرزهم “وليم شكسبير”، ورأت اليونسكو أن تتخذ من الذكرى وسيلة لتذكير المجتمع الدولي بأهمية القراءة والكتاب.

ولكن ما هو نصيب العرب من صناعة الكتاب عالميا، وما هو واقع القراءة في تلك الرقعة من العالم التي يحثها دينها على العلم، والقراءة؟

الحرف العربي مطبوعا

كانت حرفة نسخ الكتب رائجة في العالم العربي قديما، حيث كان الكتاب يحتل مكانة في الثقافة والحضارة العربية، بل نشأت بعض الفنون على هامشه لعل أهمها فن الخط العربي، وفن تجليد الكتب وزخرفتها، وكانت بعض العواصم الإسلامية هي منارات ثقافية كقرطبة والقاهرة وبغداد ودمشق واسطنبول، غير أن التعامل مع الحرف العربي بعيدا عن يد الناسخ التقليدي، كان في مدينة “فانو” الإيطالية حيث ظهرت أول مطبعة عربية أمر بإنشائها البابا “يوليوس الثاني” وبدأت العمل عام 1514م في عهد البابا “ليون العاشر”، ثم ظهرت في مدينة البندقية عام 1530م أولى طبعات القرآن الكريم، لكنها ما لبث أن حُرقت خوفا من تأثيرها على العقائد المسيحية، لكن البداية الحقيقة للطباعة كانت في مصر في 1821، عندما أنشأ محمد علي مطبعةً ببولاق، وكانت رمزا للتحديث وقتها، ورغم ارتباطها بأهداف محمد علي التوسعية التي كان الجيش أساسها، إلا أنه ُترجم في عشرين عاما  حتى عام (1842) حوالي (240) كتابا في مختلف العلوم والفنون، لكن زادت حركة الطباعة؛ فمع نهاية القرن التاسع عشر نُشر في مصر حوالي عشرة آلاف كتاب، وهو ما أسهم بطريقة كبيرة في إيقاظ الوعي الثقافي الذي كان سمة تلك الفترة، فكانت فترة نهوض عقلي وأدب واسع، توازي مع حركة تأليف وطباعة كبيرة في لبنان وسوريا.

ظلت صناعة الكتاب عربيا-في الغالب- هي مهمة خاصة لأفراد أو شركات صغيرة وكانت تحقق قدرا من الأرباح نظرا لأن تلك الفترة شهدت نهوضا فكريا وتعليميا وانبعاثا ثقافيا ملحوظا، ومع استيلاء الضباط على السلطة في مصر في 23 يوليو 1952 بدأت الدولة تتدخل في صناعة الكتاب وفي سوق النشر، وللحقيقة فقد حدث نهوض في تلك الصناعة خاصة مع بعض المشاريع في الطباعة التي أطلقتها الدولة، أبرزها مشروع طباعة ألف كتاب عام 1955، غير أن مشكلة تلك الحقبة أن صناعة النشر كانت في غالبها بلون واحد وتخدم إيديولوجية الدولة الاشتراكية والقومية، فكان النمو في اتجاه واحد، ورغم ذلك كان الإنتاج العربي شديد الهزال مقارنة بالإنتاج العالمي في بداية الستينيات، فأنتج العرب حوالي خمسة آلاف عنوان كتاب، مقابل ستين ألفا في ألمانيا الغربية فقط، ومع مطلع السبعينيات بلغ نصيب العرب من النشر العالمي (0.5%) أي أقل من 1%  وهي نسبة ضئيلة للغاية خاصة إذا أدركنا أن السنوات التي أعقبت تلك الفترة تركز جزءا كبيرا من النشر في عالم التراث ، فتشابه إنتاج كثير من دور النشر وأصبحت العناوين مكررة.

واقع الكتاب حاليا

تقدر قيمة النشر في العالم العربي بحوالي 30 ألف عنوان فقط ولا يزيد عدد كتاب الثقافة العامة من هذه الإصدارات على خمسة آلاف عنوان، فيما تحتل الكتب المدرسية والمطبوعات الحكومية المراتب الأولى في عملية النشر، وتشير المعايير الدولية أن المكتبة العامة لكي تقوم بدور ثقافي، يفترض أن يكون لكل ستة آلاف شخص مكتبة عامة، أي في بلد كمصر مثلا مفترض أن يكون هناك (12) ألف مكتبة عامة على الأقل، غير أن الواقع العربي بئيس فعدد المكتبات العامة في الدول العربية مجتمعة لا يزيد على (4500) مكتبة، لكن ما يمكن أن يطلق عليه تجاوزا مكتبة عامة لا يتجاوز الألف مكتبة.

أما معدلات  صدور الكتب للمواطنين فهي كتاب لكل اثني عشر ألف مواطن عربيا، وفي دولة مثل بريطانيا يصدر فيها كتاب لكل خمسمائة مواطن، ويتجاوز سوق الكتاب في الاتحاد الأوروبي اثني عشر مليار دولار، وهي نسبة تعدل ثلاثة آلاف ضعف مثيلاتها عربيا، إذ ينشر ألفا و650 كتابا سنويا عربيا، بينما تنشر الولايات المتحدة وحدها 85 ألف كتاب سنويا.

أما عدد دور النشر والناشرين، فالولايات المتحدة يوجد بها حوالي (63) ألف ناشر كتب، أما العالم العربي فلا يتجاوز عدد الناشرين عن الألف ناشر يعمل في تلك الصناعة إضافة إلى ألف ناشر آخر يدخل السوق بشكل موسمي، وإذا كان حجم الاستثمار في صناعة النشر عربيا يقترب من الخمسة مليارات دولار، فإن أغلبه يذهب إلى سوق الكتاب المدرسي، ولا تبقى منه إلا عشرات الملايين من الدولارات للكتاب الثقافي والعلمي، كما أن طبعة الكتاب تتراوح ما بين ألفين إلى خمسة آلاف نسخة في الغالب.

ولعل المفزع هو معدلات القراءة، التي أكدت بيانات رسمية صادرة عن المجلس الأعلى للثقافة في مصر أنها لا تتعدى ربع صفحة سنويا للمواطن العربي فكل ثمانين عربيا يقرؤون كتابا، في حين تصل إلى ثمانين كتابا في اليابان، وأربعين كتابا في إسرائيل..

هذا الواقع المتردي لعالم الكتاب والنشر عربيا من الضروري أن يكون ذا أولوية إستراتجية لتجاوزه، فبناء العقل ضرورة عربية، فثروات الأمم في عقولها قبل أرصدتها، والعقول لا يكونها إلا الكتاب.